الفوتوغرافي حيدر الناصر
ذاكـرة المكان
منذ ظهور الكاميرا في بداية القرن التاسع عشر اتخذت الصورة الفوتوغرافية عبر التاريخ تنوعات في أدوارها، فكانت أدوارًا تنوّعت من الفن إلى العلم ، فالذاكرة الشخصية والجمعية، فألأرشفة،والقانونيات، 'فالإعلان كجزء من مقتضيات السوق والدعاية السلعية ، ولكن ظلت من بين كل تلك ألأدوار طبيعة الصورة الفوتوغرافية كوثيقة أرشيفية وتاريخية،وهو أمر لم ْ يُحَسْ حتى الآن، حينما غزت الصورة الإلكترونية عالم التصوير، وصارت إعمال النسخ إلى مالا نهاية ممكنة بيسر لايصدق، حينما أسهمت التكنولوجيا في أعادة تشكيل فهمنا للفن حينما اختفت ما كانت تسمى (النسخة الأصلية) فأضحت كل الصور أصلية، فانتهت قداسة (النموذج الوحيد) التي كانت تحكم الفن فيما مضى، فانتهت قيمة العمل المتمثلة في وحدانيته وصارت قيمته في الابعاد التعبيرية والجمالية ، وأي من قيمه الأخرى التي (يستخدم) لأجلها.فانخرطت الصورة في لعبة تاريخية، لتضع نفسها جزءًا من سجل تاريخي للواقعة، ويخضع لذات الآليات الهرمنيوتيكية (التأويلية) التي قد تبتعد عن ما يفترض البعض وجوده كمعنى(أصلي) قار، كان قد قصده المرسل في ذهنه حينما هندس ميزانسين اللقطة، أو كانت الظروف التاريخية قد موضعته ليؤدي ذلك المعنى الأصلي الذي يعتبر برأيهم الهدف النهائي لكل عملية تلقّ(= تأويل)، وبذلك تتقمص الصورة طابع الأثر في طيات الواقعة، وها قد تقدمت تلك الواقعة ألان خطوة في التاريخ، خطوة لايمكن التنبؤ بها من خلال الصورة التي تسبق زمن( الواقعة الآن) حتما وبالتالي شكل الواقعة الآن.. و من خلال هذه العلاقة بين شكل الواقعة ماضيًا (الصورة) وشكل الواقعة الآن( المكان الواقعي) يتم استدعاء كل (المعلومات) الكامنة في (الخطوط الخلفية): أرشيفا ومجازا...
و بذلك تكون الصورة جزءًا من عملية التأويل التي قد تكون معقدة ومتشعبة جدا وذات أهمية ضخمة بعد توسع الثقافة البصرية باعتبارها نمطا من أنماط تبادل المعلومات على نطاق عالمي وصارت الصورة أكثر سحرا من الواقع ذاته... وصارت جزءا من متشكلات الذاكرة الجمعية وهو ما كان يهدف أليه المصور الفوتوغرافي حيدر الناصر طوال منجزه السابق حينما كان يحاول تصوير(= تسجيل؟) وقائع مدينته، تماما كما كان سلفه معين مظفر ومعظم مصوري البصرة الفوتوغرافيين الذين افتتنوا بالوقائع المكانية لمدينة البصرة وزواياها، ربما حتى الزوايا المهملة منها: المقاهي المنزوية في العشار، والبصرة القديمة والزبير، والشوارع الضيقة وهي تخترق بيوت الشناشيل، وشبكة الأنهار التي تخترق البصرة: الخورة، ونهر العشار والرباط وشط الترك، فلم يجعل اهتمامه منصبا على رؤى ما بعد حداثوية افترضها بعض المصورين الفوتوغرافيين كنمط كرسته ثقافة الصورة الرقمية وبرامج (الفوتوشوب)، لينتهي الآن إلى تكريس انتباهه لخفقات الطبيعة السّريّـة تلك والتي يعتقد أنها ستكون أكثر سحرا من الواقع ذاته، فقام بتسجيل وقائع سحر الطبيعة في الاهوار هذه المرة: حياة ساكنيها وفعالياتهم الاجتماعية ومفردات بيئتهم الغارقة في الحياة منذ آلاف السنوات، كان عالم السحر الكامن بين جنبات القصب الكث الذي يغطي سطح مياهها هو ما قاد حيدر الناصر إلى تلك البقعة لينقل ذلك الإحساس الذي تملكه من انعكاس ذلك اللون الاخضرالذي عكسته وريقات البردي هناك، انه إحساس بالطاقة التعبيرية وبسحر الوثيقة ذاته ، او ( خفقات الطبيعة)، سحر يماثل ذلك السحر الذي يتملك كل من يتصفح أوراق مخطوطة بعناية، وحنو شديدين، يماثل الشعور بالعناية التي يتصفح بها نماذج مجوهرات في صندوق، كان سرا غامضا وفتح للتو، وبذلك يكون حيدر الناصر قارئ( اثر) متمكن، حينما كان يقرأ صفحات الطبيعة باعتبارها (الواقعة = اللقطة)، صفحة من كتاب كبير تشكله صفحات لا نهاية لها، يمتزج فيها العالم في اللقطة كنموذج للطبيعة في تشكلها الجمالي وتشكلها الوثائقي معا في وحدة شديدة الترابط والتنوع.كنت كتبت مرة عن المصور الفوتوغرافي معين المظفر وكيف كان يحاول احيانا نقل حكايات من خلال عدة لقطات متتابعة تتلو الواحدة الثانية، بينما يبدو لنا المصور الفوتوغرافي حيدر الناصر ، وهو يفعل امرا قريبا بالتقاطه عددا من اللقطات لشاخص في لحظة بذاتها ولكن من جهات متعددة، وكأنه يبدي شعورا في قرارة نفسه ان الصورة الفوتوغرافية سطح ببعدين حتى وان تضمن وهم البعد الثالث، لذا فهو يعبر عن عدم قناعته بذلك الوهم، فيحاول ان يعوضه باجراء يهدف الى الامساك بذلك البعد الثالث الوهمي من خلال محاولة الالتفاف حول النموذج واخذ لقطات متعددة له، تماما مثلما يجد متلقو النحت انفسهم مدفوعين برغبة عارمة للطواف حول النموذج النحتي والتشبع به من خلال تجميع عدة لقطات له في الذاكرة.
http://www.alnoor.se/article.asp?id=31465