الأربعاء، 18 نوفمبر 2009

تشكيليو البصرة.. انطولوجيا في دور التشكل


تشكيليو البصرة.. انطولوجيا في دور التشكل


فنان وناقد تشكيلي عراقي

تشكيليو البصرة.. انطولوجيا في دور التشكل


(موضوع مفتوح للكتابة)


يفتقر التاريخ التشكيلي العراقي إلى تدوين هوامشه في المحافظات الأخرى، وعلى الأخص مدينة البصرة، إلا من مساهمات كتبها بعض المهتمين بتاريخ الفن التشكيلي في البصرة وأهمهم إحسان وفيق الذي نشر موضوعا في الصحافة المحلية بعنوان: روافد الحركة التشكيلية في البصرة (جريدة (الزمان) الدولية – يومي:  13كانون الثاني 2007،  11شباط 2007) وأثار في وقتها بعض الاعتراضات غير المدونة حول بعض الحقائق التاريخية الواردة فيه باعتبارها غير دقيقة، إلا ان كتابة التاريخ لابد ان تتضمن اختلافا في وجهات النظر التي تؤدي بالضرورة إلى تدوينات مختلفة،  فكان ما قدمه الكاتب إحسان وفيق جهدا ممتازا وجديرا بالثناء وبالنشر والمناقشة وإبداء الملاحظات المدونة، وتصويب أية معلومة يعتقد أنها غير دقيقة، إلا ان ما يؤاخذ عليه الكاتب ان كتابته أخذت منحى التدوين التاريخي دون خوض في أسلوبية المبدع، وقد كان يتتبع نشأة الفن في البصرة من خلال ما توفر لديه من مدونات تعد وثائق مهمة يجب الحفاظ عليها من اجل إعادة ترميم خروم التاريخ التشكيلي في محافظة البصرة، فقد خالف  إحسان وفيق المعلومات التاريخية التي ثبتها آل سعيد حول تاريخ التشكيل في البصرة فكان يؤكد ان أسباب نشوئها تعود إلى "احتكاكها مع العالم عن طرق التجارة، فنقلت لنا الكثير من تلك الثقافات والفنون من - استانبول والهند - علي شكل صور شخصية، او لوحات عن الطبيعة الصامتة حسب عادة ذلك العصر- بينما- يقول الفنان - شاكر حسن أل - سعيد في بحثه عن (تاريخ الحركة التشكيلية في العراق) ان الحركة التشكيلية في البصرة قد ابتدأت بعد قيام الحكم الوطني في العراق علي يد الفنان - عبد الكريم محمود - الذي عمل سنة 1922 مشرفا علي الدروس الفنية وإلقاء بعض الدروس العملية علي طلبه المدارس الأولية في البصرة، ثم اعترف الفنان شاكر حسن آل سعيد بعدم وجود تاريخ مكتوب للفن في البصرة،وحجته في ذلك عدم وجود مسح فني إلا ما يخص العاصمة بغداد، وهو ما أجاز له ان يجعل من بغداد مركزا لتأريخ الفنون التشكيلية في العراق!! رغم التفاوت الحضاري لان البصرة كانت تمثل حلقة الوصل الفكرية والفنية بينها وبين العالم وبين بغداد !!، وبمثل هذه الظاهرة بدا التاريخ الافتراضي للفن التشكيلي في البصرة وبغداد؟".
 ويورد إحسان وفيق عددا من التصريحات التي أدلى بها عدد من التشكيليين حول الموضوع فيقول: "أما الفنان - سلمان البصري - فيذكر في بحثه المنشور في جريدة المرفأ الأدبية إلي ان الحركة التشكيلية في البصرة قد ظهرت بين أعوام (1925 و1955) لوجود فنانين بصريين مثل (هادي البنك و سليم إيليا) وقد علل دراسته عبر نظرة عمومية اعترف فيها بعدم وجود فن حقيقي لان جل ما قدم تلك الفترة كان عبارة عن تقليد و تزوير.
أما الفنان محمد راضي عبد الله فقال بان الحركة التشكيلية قد قامت بين عامي 1945 و 1955 علي أيدي الفنانين (مهدي البنك وعبد الباقي النائب وعبد الرزاق الصانع وعبد الرزاق العايش) بسبب تأثر الفنانين البصريين بالدفعات الأولي من الرسامين التشكيلين الذين تخرجوا في مدرسة الفنون الجميلة ببغداد (فائق حسن وجواد سليم وحافظ الدروبي) إضافة لوقائع الحرب العالمية الثانية وما نقله الفنانون البولونيون من أفكار تجديدية أثناء التجائهم إلي العراق.
والفنان محمد راضي عبد الله هنا قد تجاهل أيضا الكثير من تاريخ الحركة التشكيلية عندما ربطها بمصادر خارجية وحتى يمكننا خلق حالة من التوازن بين ما طرحه الفنانون المذكورون لابد من استعراض بعض الشواهد لان الحس الفني والعلاقات الاجتماعية كانت حاضرة في البصرة.. ففي بلاط السريدار خزعل خان أمير المحمرة تمت استضافة الفنان قيصر الجّميل شقيق (بيير الجّميل) زعيم حركة الكتائب في لبنان في بدايات القرن العشرين فرسم له ولأبناء أسرته مجموعة من الصور الشخصية، فمنحه الشيخ خزعل مكافآت قدرت بسبع مائة ليرة ذهبية، واللوحات الزيتية موجودة حالبا عند (ورثه حفيده السيد سلمان الشيخ عبد الكريم الشيخ خزعل المحامي) وقد تميزت اللوحات الزيتية بطاقة فنية عالية وبأسلوب واقعي جذاب اتخذ البساطة في التعبير.، أما صور السيد طالب باشا النقيب فظلت مع أفراد أسرته ولا يعرف مصيرها ولا اسم من رسمها!؟ أما مجموعة قصر السيد- سالم أغا جعفر - فضمت روائع من الفن الفارسي والإسلامي و رسومات عن الحريري وخمريات الشاعر عمر الخيام و عدد كبير من المجّسمات البارزة المصنوعة من الحجر الجيري والمرمر الايطالي ولوحات بالحبر الصيني والفحم نفذت في نهاية القرن التاسع عشر من قبل فنانين بصريين درسوا علي أيد فنانين عرب وأجانب...
وفي تقديرنا لمداخلات الحركة التشكيلية نعتقد بان الفنان فاضل محمود ليس الأول في تسجيل الحركة التشكيلية في البصرة (وقد عرضت أعماله في معرض- سوق عكاظ - الذي أريد له إن يكون أول معرض للفن التشكيلي لفناني العراق في بغداد عام 1924 عندما شارك بلوحتين،رسم فيهما طبيعة البصرة الحقيقية ) ورغم مكانة الفنان فاضل محمود البارزة في تاريخ الفن العراقي تلك المرحلة إلا انه لم يفصح عن تجاربه وعلاقته مع الفنانين البصريين. فالبصرة عرفت نهضة فنيه واسعة من خلال تواجد مجموعة من الفنانين العرب والأجانب عاشوا مع الفنانين البصريين الذين عاصروها وعاشوا طبيعتها وانتسبوا إلي عالمها وتركوا بصماتهم عليها، وقد غاب عنا الكثير وخاصة اللوحات التي رسمها بعض فناني البصرة لشخصيات سياسية و رجال تخرجوا في الجامعة الأمريكية، ويعود ذلك إلي طبيعة الواقع الاجتماعي ولان تلك اللوحات عدت ودائع شخصية لا يجوز اطلاع العامة عليها !!".
 ويتوسع أحسان وفيق في تفصيل الحوادث التاريخية ممتدة حتى وقتنا الحاضر، مما لسنا بصدده الآن، ونحن ندعوه إلى نشر بحوثه حول هذا الموضوع لأهميتها من الناحية التاريخي، كما ندعو كافة المعنيين بكتابة ملاحظاتهم عليها، فقد سبق لي وأرسلت نسخة من مقال إحسان وفيق بالبريد الالكتروني إلى الفنان سلمان البصري لإبداء رأيه بما كتب.
يأتي ما قدمه الناقد شاكر حسن آل سعيد من ملاحظات في كتابه الضخم (فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق) الذي أصدره بجزأين عام 1988،أهم توصيف سوسيو- فني عن الحركة التشكيلية في البصرة مع بعض المعلومات التاريخية المهمة لبعض فناني البصرة، ومعارضهم، وأساليبهم، ومساهمات البعض منهم في تأسيس الجماعات الفنية في بغداد والجماعات الفنية في البصرة، وسوف نعتمد في الاستعراض التاريخي السوسيو – ثقافي التالي على طروحات آل سعيد، في كتابه ذاك، فهو يصف الحركة التشكيلية في البصرة، بقوله: "يبدو أن احتدام الفكر السبعيني  يبدأ في البصرة من مواقع أكثر انهماكا بالوعي العالمي منه في بغداد . ذلك البحث الإنساني الصميمي لدى سلمان البصري إلى جانب جماليات علي طالب الزخرفية والإشارية معا، ثم بحث عجيل مزهر المحيطي وإنسانيات فاروق حسن الملمسية، كل هذه التجليات أخذت تشكل الآن نوعا من الطرح الفني الذي لا يقل عما كانت تحتدم فيه أفكار فناني بغداد. الملمسية بدأت في البصرة بشكل أكثر استغراقا منه في بقية أنحاء العالم من خلال بحوث محمد مهر الدين و عجيل مزهر وفاروق حسن". بينما كانت مساهمة فناني البصرة كبيرة من خلال عدد من الفنانين الذين ساهموا في تأسيس الجماعات الفنية التي ساهمت بفاعلية "من اجل البحث عن رؤية جديدة" للفن العراقي، فقد ساهم علي طالب في جماعة المجددين innovators  (65-1968)   وهي أهم  الجماعات الستينية التي غيرت بفاعلية رؤية الفنانين والجمهور تجاه الفن الحديث باتجاه البحث التقني الماتيريالي، وممارسة أقصى مديات الحرية والاستغراق في المعاني والبنى الكامنة في العمل الفني، كونه ممارسة تمتلك واقعها الخاص وليست ارتدادا عن مؤثرات تفرضها فعاليات خارجية، والانقطاع إلى العمل الفني باعتباره حوارا تقنيا بين الرسام والمادة المستخدمة في إنجاز العمل. لقد ظهرت جماعة الزاوية بجهود إسماعيل فتاح الترك الذي خطط لهذه الجماعة بقصد تأسيس جماعة جديدة تمثل الجماعات الفنية المختلفة، وكانت تهدف حسب ما يذكر آل سعيد لاستنهاض همم الشباب للعودة إلى الخط العام للتطور فكانت دعوتها غير المباشرة في وضوح المضمون وعمقه. وساهم الرسامان فيصل لعيبي وصلاح جياد من البصرة بتأسيس جماعة الأكاديميين، وهي جماعة تنتمي إلى تيار لا ينتمي إلى الشكل الفني الحديث، ولا لاستلهام التراث بل للمضمون وما يتمخض عنه من معان إنسانية، فارتبط ذلك المضمون بالبعد السياسي والاجتماعي والواقعي في آن واحد فكانت احد التأثيرات الأيديولوجية للخامس من حزيران 1967.
  تأسست في البصرة عدة جماعات فنية مهمة أسهمت في رفد الوعي الفني التقني وهي:
(جماعة البصرة) :  وتتمثل أهميتها، ككل، ونشدد على كلمة ككل، الجماعات الفنية في العراق في كونها تحقق تجمعا للفنانين يساهم في تطوير رؤاهم حول العمل الفني والاتفاق على بعض الرؤى المشتركة، وكانت تلك الجماعة تضم في صفوفها: ادهم إبراهيم وجبار داود ومحمد راضي عبد الله ومحمد الزبيدي وموريس حداد ونجاة حداد و عجيل مزهر وعادلة فاضل وفاروق حسن وسلمان البصري، وأقامت معرضا للمدة 6 – 12/7/1968 في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث .
جماعة الظل :  و أسسها كل من سلمان البصري وشاكر حمد وعبد الله شاكر وعلي طالب حمدي ومحمد الزبيدي ومؤيد عبد الصمد عام 1970، و أقامت معرضها الأول في مدينة البصرة، ثم انتقل إلى قاعة المتحف الوطني للفن الحديث في بغداد للمدة من 25/2 – 1/3/1970، وشارك فيه سلمان البصري وشاكر حمد وعبد الله شاكر وعلي طالب ومحمد الزبيدي ومؤيد عبد الصمد ونشرت بيانا في مقدمة دليل المعرض هو دليل على تبلور الفكر الفني في مطلع سبعينات القرن الماضي في العراق في مدينة أخرى غير بغداد كما يؤِكد شاكر حسن . وجاء في بيانهم :"لا يطمح الفن أن يكون أكثر من موقف إنساني إزاء الواقع، وهو من خلال ذلك يطرح أسئلة، ولا ينتظر أن يعطي أجوبة .." وبذلك يمكن القول إنهم  "لم يعترفوا بأي طرح أسلوبي مهما كان، إنهم يعتبرون بنية العمل الفني"تنمو في مناخ المحسوسات وعلى جانبي الشعور واللاشعور معا، إذ ليس المطلوب تفسير العالم وإنما المطلوب تغييره" على حد تعبير البيان.
جماعة المثلث : تأسست أواخر عام  1969، وأصدرت بيانا يوضح سياستها وفكرها ومسؤولياتها تجاه الفن العراقي والعالمي وعرض باسمها محمد راضي و عجيل مزهر وفاروق حسن، وأقامت معرضها الأول في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث من 7 – 13/6/1970، وشارك فيه محمد راضي عبد الله و عجيل مزهر وفاروق حسن، ويبدو أنها كانت تهتم، من الناحية الأسلوبية، بمبدأ استلهام العالم الخارجي، والتأثر ببعض المؤثرات العالمية الأخرى، إن ظهور الجماعات الفنية في البصرة يؤرخ لفترة من الوعي الفني وتواصل البحث التقني للستينيين بما يؤدي إلى إنهاء الهيمنة الأيديولوجية لحقبة الخمسينات.
لقد حاولنا هنا ان نفارق، او ربما نتكامل مع الكاتبين اللذين اعتمدنا عليهما هنا في تغطيتهما لناحيتي التدوين التاريخي والسوسيولوجي، متجهين إلى محاولة كتابة (الواقع)  التشكيلي في محافظة البصرة من وجهة نظر نقدية ؛ فتناولنا تجارب بعض الفنانين منفردين، وقد قصرنا مهمتنا على فن الرسم، وبعض الفوتوغرافيين، ونحات واحد وهو ما توفر لدينا في الوقت الحاضر آملين ان نستكمل بحثنا في أساليب تشكيليي البصرة ونعيد نشره في اقرب وقت.

من أعمال الفنان محمد راضي عبد الله

محمد راضي عبد الله ... العتمة الثقيلة


  محمد راضي عبد الله 00000 شيخ الفنانين التشكيليين البصريين، وأحد مؤسسي معهد الفنون الجميلة في البصرة، كان أسلوبه في الستينات متفردا بجملة خصائص أهمها صفتي الاقتصاد الشكلي الشديد وهيمنة الفراغ على مساحة اللوحة، فكانت اللوحة تبنى من شكل  (figure) هلامي غير واضح المعالم، يقرب من شكل حصان مجنح آو كائن متحفز للحركة يتخذ إحدى الزوايا القصية للوحة، تلفه العتمة من كل جانب، آو قل تجثم عليه العتمة المطبقة والمتلفعة بالسواد وقد كان الرسام الدكتور علاء حسين بشير يرسم  بذات الطريقة حين كان في البصرة حين كان عميدا لكلية الطب في جامعتها في الفترة ذاتها.

من أعمال الفنان اسماعيل فتاح الترك

إسماعيل فتاح الترك ..


اكتمال الصناعتين.. و تغيير (أهداف) الفن

أقام النحات العراقي الراحل إسماعيل فتاح الترك، فور عودته من الدراسة في ايطاليا عام 1964، أول معرض له عام 1965 في قاعة الواسطي، معرضه الاستثنائي على التشكيل العراقي، وقتذاك فكان "مجموعة لوحات فاجأ بها جمهور المشاهدين ووضعهم أمام تحد كبير لجدة طرحه وغرابة تكوينه... كان المعرض صادقاً في اختزاله واقتصاده في اللون والشكل إلى أدنى حد"، وكما وصف شربل داغر المنجز النحتي في ذلك المعرض بأنه قد شكل "صدمة كبيرة لمتذوقي النحت ومتابعيه، إذ حاد الترك عنهم أسلوبا وموضوعات"؛ فقد اهتم الترك، وطوال حياته الزاخرة بالإبداع، في تغيير (أهداف) الفن التشكيلي العراقي، رسماً ونحتاً؛ وكان معرضه ذاك تدشينا لمكانة الترك الاستثنائية وقد أثار في وقتها الكثير، لما اتسم به من قطيعة مع المنجز العراقي لجيل الرواد، قطيعة لم يستسغها أو يتقبلها الكثيرون، فأثارت ردود أفعال شديدة، حيث صرح الرسام كاظم حيدر وقتها "لو وضعت في غرفة مغلقة ليوم واحد لكان بإمكاني ان اعمل معرضين من أعمال إسماعيل فتاح الترك"، بينما وصف ضياء العزاوي الترك بأنه كان "قد اختزل فيه الكثير من تزيينات كانت لا تخلو لوحة عراقية منها". لقد كرس إسماعيل فتاح، بصفته نحاتاً بالدرجة الأساس، توجهه نحو النحت، فكان ان أسهم بشكل كبير من إعادته إلى (أهدافه الأولى)، وربما (ثيماته) الأولى: السكون المقدس الذي يلف حشود الدمى الرافدينية وهي تقف خاشعة في حضرة المقدس، وثانياً العناية بالمشخصات غير المقصودة لذاتها، أو لأهدافها الأرضية، بل لأنه كان فناً يضع قدماً في الأرض لكنه يضع الأخرى في عالم أخر، عالم المقدس حيناً، أو عالم أخر غامض، فكانت منحوتاته ليست سوى حشود من الشواخص الواقفة بسكون مهيب، ولكننا قطعا لا ننكر أنها مصنوعة بوسائل أرضية، ولكن ذلك أمر لا مفر منه، فالمقدس ليست له وسائل أخرى للتواصل مع الأرض سوى وسائل البشر: اللغة، والرسم، والنحت، وكذلك ليس للبشر إلا الوسائل ذاتها، وبذلك وجد إسماعيل فتاح الترك نفسه منغمساً في الوسيلة الوحيدة التي استعارها من الفن العراقي القديم حينما "لم يكن الفن موجهاً إلى تسجيل مظهر الإنسان بل ترجمته إلى عالم فيما وراء العالم، رغم اشتغال الترك في انجاز نصبه التذكارية لشخصيات تاريخية: الرصافي، الكاظمي، أبو نواس، الواسطي، باعتباره نحتاً أكاديميا يعنى بنقل سمات المشخصات بأكبر قدر من القواعدية، إلا ان هذه الصفة تبدو مقصرة في توصيف نحات كإسماعيل الترك الذي ينتمي بحق إلى فصيلة أخرى من النحاتين، ومن الرسامين كذلك، ونعني بهم "فناني المادة"، فلم يكن إسماعيل الترك يؤمن ان هدف الرسم والنحت تقليد مشخصات الواقع، قدر ما يكون خلق "مشخصات" عالم أخر، عالم صفته الأخرى الأهم تحريف الأشكال بدافع حسي تحولي نحو أشكال سلبية اعتورها "الخراب" الذي يزحف على الحياة في كل لحظة بسعي لا يكل، ليخلق بعد رحيله شخوصاً لا ملامح لها، عمياء مستكنّة، مستقرة بثبات في أماكنها التي لم تغادرها منذ ان رفع النحات يده منها، وكان قد أصابها الضر والنخر، وغارت فيها شقوق حزت واجهتها بفضاضة، شخوص سلبية، أطول من (أشكال الواقع) واغرب، تفارق شخوص النحات جايكوميتي بامتلائها، وهنري مور بنحافتها "معتمداً في ذلك أسلوبا تجريدياً لم يتخل فيه عن الهيئة العامة للإنسان، ولكنه تبسط في تجسيد الشكل، ميزه برأس صغير ذي ملامح مطموسة، وجذع ضخـــــم يتألف من كتاب على شكل مســـــتطيل، وأطراف دقيقة.
أما سطوح الجسم فلها ملمس خشن بارز تمنح المشاهد إحساسا بانتمائها لسلالة من طين لم يصقل بعد، فقدم الترك نفسه نحاتاً في منطقة اشتغاله هذه، كواحد من كبار مجددي النحت العراقي الستينيين الذين لم تأخذهم طروحات (التعبير عن الروح المحلية) التي اكتسحت الجيل السابق له، وقولبت رؤى وأعمال جحافل منهم، وأجيالا لاحقة لهم من الذين اخذوا ببساطة وإنشائية ووضوح أفكار الخمسينيين، تلك الأفكار التي استعيرت من منطقة خارج المنطقة البصرية (فأجهزت) على جزء ضخم من اندفاعة الفن التشكيلي العراقي لولا تطلعات الستينيين، ذلك الجيل الذي مثله بالنحت، إضافة إلي الترك: اتحاد كريم، ونداء كاظم، وعبد الرحيم الوكيل، وفي الرسم، إضافة إلى الترك أيضا : علي طالب وصالح الجميعي وســــالم الدباغ ورافع الناصري وضياء العزاوي ومحمد مهر الدين.
يرسم النحاتون أحيانا ما يحتاجونه من رسوم "يدونونها" على عجل لانجازها فيما بعد نحتاً، ولكنهم يرسمون أحيانا أخرى منجزاً في الرسم كمنجز جواد سليم وميخائيل انجلو، وهو لا ينتمي إلى تلك الممارسة العادية للنحاتين الذين يرسمون مشاريع مستقبلية، بل مساهمة رؤيوية ساهمت في زحزحة نسق فن الرسم العراقي بدرجة من القطيعة الحاسمة، وشكلت الجزء الأخر الغائب (المسكوت عنه) في منحوتات الترك، وهي تفاصيل الوجه الإنساني الذي تفتقر إليه منحوتاته التي هي دائماً لا وجوه لها بينما كانت لوحاته، هي الأخرى، وجوهاً لا أجساد لها، معظم الأحيان. كانت حشوداً من وجوه عمياء تتحسس وجودها بصعوبة بالغة "وتحمل أسى عميقاً غامضاً، وحساً درامياً"، وبذلك فهي تفارق مرجعيتها وجوه الدمى العراقية الرافدينية القديمة فان وجه آبو وزوجته، وآلاف الدمى، تهيمن على مخيلة إسماعيل الترك، "لقد صور حالة الرجل والمرأة في وجودهما الأول، وبحرية متناهية أحيانا، فكان يجسد من خلال هذه الأشكال الأسطورية ما يوحي بأصل الخليقة والوجود"، وهو لا يحتاج، بسبب هيمنة مولداته الشكلية الثابتة، ان ينفق وقتاً لإيجاد موضوع للانجاز، تماماً كما هو حال الرسام فرنسيس بيكون الذي انفق حياته كلها وهو يرسم شاخصاً وسط اللوحة يخضعه لشتى ضروب الألم التي يكيلها له الرسام مرة بعد أخرى، لذا كان تعليق كاظم حيدر عن معرض الترك عام 1965 صحيحاً تماماً ويشمل تجربة الترك طيلة حياته، فبينما كان كاظم حيدر ينفق وقتاً طويلاً في (بناء) موضوعاته، كان إسماعيل فتاح الترك لا يحتاج سوى ان يضع فرشاته المغموسة باللون على سطح اللوحة ليظهر وجه يستعير شكله من مخزونات ذاكرته من الوجوه التي شاهدها في المتحف العراقي، كان رساماً مقتصداً باللون والشكل إلى أدنى حد، وهما سمتان لازمتا أعماله المرسومة، فالاقتصاد باللون ... وعدم التنازل عن الخط مع التبسط في الشكل، طبعت رسومه كافة، انه نحات أولا، ولكنه لم يتوقف عن الرسم، فقد ظلت الوجوه المجردة ذات الملامح المطموسة، والنابضة بالأسى تلح عليه، ويلح في تصويرها" كما تقول مي مظفر.

من أعمال الفنان علي طالب

الرسام العراقي علي طالب..


 الرأس المقطوع .. محنة الإنسان.. وشيئية اللوحة

في ما مضى من السنوات كانت ثمة عناصر محددة في تجربة الرسام الستيني علي طالب تجثم على متلقي تجربته؛ فتعمل كموجه قرائي، ولم يكن هنالك من خلاص لهؤلاء المتلقين إلا أن يتناولوا تجربة علي طالب مرورا بالثيمة المهيمنة على تجربته وهي "الرأس المقطوع الذي كان يبدو (بلقطة جانبيّة)، والذي يشكل الهيكل البنائي في أعماله، والذي أتخذه الرسام مرتكزا في متحفه الشخصي؛ فقرابة ربع قرن، كان يلف هذا الرأسَ لغزٌ مثيرٌ يبقيه محفوفا  بأسراره، وأحزانه، وخوالجه، ومآسيه، كان ذلك الرأس يبدو شخصيةً ذاهلةً تظهر والظلام يلفها من كل زاوية، لكنها رغم ذلك، تؤكّد وجودها برد فعل ليس أقله عدم الاكتراث الذي تبديه تجاه الآخر(=المتلقي)؛ مما يجعلنا نلتمس لها عذرا؛ فهي تبدو عمياء لا قدرة لعينيها على الأبصار، أو لا وجود لعينيها، إنها إذن ليست بمواصفات (لعبة الرأس المقطوع) التي كنا  نشاهدها في طفولتنا، إنها لعبة تجري بطريقة أخرى، لعبة قاسية ومحزنة بقدر كبير وموجع، من الصعب الحديث عنه لغةً؛ فلن يتبقى من تجربة تلقـّي لوحة علي طالب سوى رائحة الموت الذي يعشش في ثنايا أعماله؛ فهو الممثل الأهم في مسرح الحدث... ومثلما كان جايكومتي يعتقد " أن الوجه الإنساني غابة لم تكتشف بعد" فأن علي طالب يبدو مؤمنا بذلك تماما، وهو الذي انفق أكثر من ربع قرن يستقرئ الوجه الإنساني ويوظفه، بل ويختزل الواقع، ومحنة الإنسان فيه، بكل تعقيداتها إلى علامة واحدة هي ذلك الوجه، ساحة لتجاربه التقنية اللونية (ونحن نعني تحديدا سلسلة من الوجوه التي رسمها لرؤوس آدمية عام 1999)، فحين يعكف على سطح اللوحة ينقطع إليه تماما كما ينقطع النساك، أو ربما كما ينقطع الوراقون على صفحاتهم يزوقونها، فيضع خطوطه، وعلاماته ومستحثاته الشبيهة بالكلف والندب التي غزت وجها مجدوراً، وقد يتخلى عن ذلك حينا، متجها بألوانه صوب أحاديّة اللّون، لكن لوحته، رغم أحادية اللون، تظلّ موّارة بغموض واضطراب لوني هائل.
 بدت لوحات علي طالب تجارب تؤكد أن اللوحة حقل لا يمكن فيه فصل الخامات عن الألوان مطلقاً، وأنهما معاً لا يمكن أن ينفصلا عن الوجود الشيئي للوحة، وبذلك تكون اللوحة حقل وجود لعناصرها؛ فبدت لوحته مركباً عصّياً، تشكّله أجواء شبه أسطورية من شخوص طوطمية تنتصب وسط ظلام السطح الذي هو ناتج عمل تقني عال في معالجة المادة واللون، ومن سطوح متآكلة تلفها الظلمة التي تذكرنا بظلمة لوحات رمبراندرت وكارافاجيو، فقد (كان علي طالب) ومازال، منغمسا في معالجة الموضوعات الوجودية، والأسئلة الكبرى حول الطبيعة البشرية، وطبيعة الحياة  والموت والزمن.. ويبدو أثر المنفى على أعماله الجديدة جلياً، متمثلاً في البحث عن الأرض الأولى حيث يزاوج بين الرحم والمكان الأول (الذاكرة).. (كما جاء في موقع فنون)، ومن ظلمة داكنة تنبثق زهرة حمراء تشكل خارطة (قوس محمول) ينمّ عن ممارسة طقسية سرية غامضة وأجواء لونية شحيحة. لقد كتبت مرة، وأنا أتحدث عن الرسام المقيم في لندن هاني مظهر، بأنه كان يعمد إلى إجراء انقطاعات في أشكاله فيقطعها إرباً باستخدام اللون الأبيض، بينما يفعل علي طالب الأمر ذاته ولكن  من خلال اللون الأسود (الذي يمحو الأشكال فيخلق الانقطاع). كتب محيي المسعودي يقول "في كل عمل ثمة الإنسان وقضيته وصراع... لقد شح الضوء كثيراً، فانسحبت الألوان المضيئة تاركة أثراً دارساً يغري الناظر بفقدانها ويعبر عن فجيعة الإنسان الغائب شكلاً والحاضر فعلاً وأثراً في معظم الأعمال... لقد عّم الظلام وتسللت العتمة والقدم والإهمال، وهي إشارات تؤكد رؤية الفنان الراسخة بأفول الحياة... وهزيمتها لصالح الموت أو الفناء أو الدمار"، فكان علي طالب، من ناحية التقنية اللونية يعمد في تنفيذ أعماله، على تعدد الطبقات اللونية المتراكمة ومن ثم الحفر في هذه الطبقات لإحداث (أثر) واضح في سطح اللوحة، أن لوحة علي طالب ليست إلا موتيفا صغيراً يشكل بلورة تجمعت حولها سحب الظلام متراكمة، وأشكالها كانت تتأرجح بحركة بندولية بين التشخيص وبين التجريد بإصرار ثابت. يتخذ علي طالب الجدران نسقاً يقايس عليه تجربته، فتكون تلك الجدران جسداً ممتلئاً بالحركة في سكونه ونابضاً بالوجود كواقعة شيئية بماديتها أولاً وبتقنياتها المختلفة، مكرساً المبدأين اللذين رفعهما آل سعيد إلى مقام الاستراتيج وهما: التعرية والتراكم، فيكون الجدار ميداناً لتجارب الرسام باتجاه إخضاع عناصر اللوحة (المادة واللون) لتجاربه الامبريقية إضافةً أو حذفاً..
تتنازع الفنان شتى النوازع، بشأن مسألة المتلقي الافتراضي الذي تتوجه اللوحة إليه، هل يتمكن هذا من حل شفرة العمل أم لا؟، وكيفما كانت النتيجة فأن الذي سينتصر في نهاية الأمر، بناء العمل كما أراده الفنان الذي لا يدير ظهره للمتلقي، بل يلقي إليه، قبل أن يتركه وحيدا أمام ذلك العمل، يلقي إليه بمفتاح نثري وحيد من طبيعة (خارج بصرية)، انه عنوان اللوحة، عله يساعد في إخراج ذلك المتلقي من ظلمات المعنى إلى نور الإحساس به، والفنان في ذلك يفترض متلقيا من نمط مختلف، لأنه يترك، بعمله ذاك، من الأسئلة أضعاف ما يترك من الإجابات!!.
 هل يصح، بعد كل هذا، اعتبار علي طالب رساما (بَصَريا)؟ أي أن يكون مجردا من كل معنى غير بصري (نثري = أدبي أو رمزي)؟
 قد يعجَب الكثيرون منا إن نحن، بعد كل الذي قلناه، نعتبره كذلك، بل سنعتبره كذلك!؛ فنحن نعتقد انه رغم حرصه على أن تُـمثل لوحته (شيئا) أي شبها بأشكال الواقع، إلا أنه مثل ماكس آرنست، يبقى وفيا، ومخلصا لشيئية سطح اللوحة؛ فهو يضع للوحة حدودا بشكل وجه إنساني جانبي! ـ وليس ذلك سوى الديكور الذي تجري فيه أحداث المشهد: نسيجا من قماشة، أو أية مادة أخرى، وضع الفنان الصبغ عليه، وسيخوض فيه غمار تجربة تقنية مع المواد المستخدمة، ليصير ذلك الوجه نسيجا ثرا، سواء بسحنته اللونية أو ملمسه، وهو لا يشابه إلا نفسه، مهما أوحى لنا بشبه لأشكال أخرى في الواقع، ومهما بحث المتلقي عن معان خارجية فلن يجدها، وعليه أن يبحث عن معانيه داخل اللوحة، لا خارجها!، تماما مثلما انشغل الفنان بسطح اللوحة حين أنجزها بانقطاع يشي بافتتان بالنسيج والمواد الغريبة التي يشتغلها بيديه (أي يصنّعها يدويا) فقد كان يضع على لوحته كل ما يعن عليه، ويعتقده يصلح أن يوحي بفضاضة ما يحيط بنا.

من أعمال الفنان سلمان البصري

سلمان البصري ... اختزال الملامح


 كان سلمان البصري رساما شديد الاهتمام  بالملمس  (texture) فكان شديد الولع بتصوير الفلاحين وتأسيس اتجاه إنساني خاص في الرسم بمحاولة اتخاذه الشكل الإنساني مرتكزا شكليا و بنائيا للوحته، يواجه المتلقي عاريا إلا من كينونته الإنسانية، يرسم  بأسلوب اختزالي لا يهتم بالتفاصيل حيث تنتهي ملامح شخوصه ليقترب شكلها من أشكال منحوتات جايكوميتي  وإسماعيل  فتاح الترك،  كان يبني لوحته بأسلوب مخطــــط له بهندسة معمارية واضحة، رغم ما كان يوحي به من عفوية الإنجاز. يقول الفنان سلمان البصري :"هنالك عنصر أساس هو الإنسان، انه يشغل انه يشغل اغلب المساحة في أعمالي. وهذا ما أتصوره أحاول أنا في الأقل... الإنسان بكل دواخله... التكوين الخارجي ليس الأساس، انه منفذ تعبيري فقط، لكن مكنوناته السرية هي عالم دافق لا يحد".
  كان الفنان سلمان البصري مربيا في  مدارس البصرة حيث تتلمذنا على يديه، فأورثنا حبه للرسم، وهو أهم  ما كان يهدف إليه في تعليم الطلاب.
كتب امجد ياسين النصير عن (دلالة المربع والهلال في لوحة الفنان سلمان البصري) "أن تعامله مع الأشكال الهندسية هو عبارة عن إخضاع البعد الرياضي للفن ولطاقة الألوان التي تميزت بحرارتها الشرقية ورؤيتها المباشرة. 
 يخضع الفنان سلمان البصري اللوحة في أعماله إلى تنويعات رياضية عده تقف جميعها عند عتبات الشكل الهندسي، المربع والمستطيل غير المكتمل الأضلاع والقوس والهلال، وكذلك الحروف العربية أو الكتابة مستفيداً في كل ذلك من بنية العمارة بشكل عام والعمارة الإسلامية بشكل خاص... فيشغل المربع حيزاً كبيراً في لوحته لأنه البنية التي يمكنها أن تملأ مساحات لونية تسهم في تجاور الكتل، لا بل أن المربع مع الهلال يشكلان الثيمة الأساسية في مجمل العمل الفني، وهي ثيمة فيما لو دققنا بها نجدها بجذور إسلامية. فهو ينتزع من المشاهد القسم الأكبر من الاهتمام لمحاولة تفسيره أو الإلمام بأبعاده ونهايات زواياه التي يعمل الفنان على أظهار أهميتها من خلال تقنية الرسم المستخدمة والخطوط. 
 ورغم إن المربع يضفي نوعا من القسوة على العمل الفني إلا إن عدم اكتماله أو رسمه بأضلاع ثلاثة أحياناً هو إيماءه ذكية من الفنان بأن المسألة ليست محسومة أو مقيدة بل إنها مفتوحة لتفسيرات وعوالم أخرى يضفي عليها اللون والظل بعداً آخرا وهو قدسية ما تحتويه من كتابة. كما يضفي القوس أو الهلال المفتوح أبداً إلى سماء اللوحة بعداً هندسياً إسلامياً حيث يشعر المشاهد مع الألوان المجاورة له بنوع من الراحة والشعور بالطمأنينة، فهو الأمل وهو القرب إلى الله وهو الرجاء بفرحة قادمة، وهو قبل هذا وذاك الشكل الهندسي الأعلى في اللوحة الغائر في الوجدان الجمعي للناس، وكأنة وعاء الاستلام أو صلة الوصل بين ما تجود به السماء على هذا المخلوق الهندسي الشبيه بالإنسان وبين الخالق، فهو يمثل الرأس أو القمة في موضوع اللوحة بينما يشكل المربع والمستطيل باقي الجسم البشري أو الشكل الهندسي.
أن اختلاف الأزمنة التي عبر عنها الفنان باللون وبالموضوع وبالحجم أيضاً،رافقها تدرج أيضا في أحجام الكتل) الخلفية،الإنسان، الحاضر أو المستقبل( التي تمثل بدورها سلسلة لونية متناسقة، أريد منها أن تكون ذات أبعاد ومضامين مختلفة فلعب فيها اللون دوراً مهما، فهو شبيه بلون الأرض عند الخلفية او الماضي وازرق مخضر عند الجسم او الشكل الهندسي،والفنان يعطي هنا الجسم أهمية خاصة لأنه يربطه بالمقدس على الأقل لونياً ومن ثم سترة بالحاضر او المستقبل للمحافظة على خصوصيته، أما الحاضر او المستقبل فهو يحوي جميع الألوان التي استخدمت لرسم اللوحة، فهو يتضمن لون الخلفية والإنسان والحاضر والمستقبل والكتابة، كما ان حدة زواياه ووضوح لون أضلاعه وصغر حجمه تعطي أحساساً بأن القادم أقل واصغر وبالتالي فانه مضطرب وغير واضح المضمون".

من أعمال الفنان فاروي حسن

فاروق حسن ... ملمس السطح


كان فاروق حسن مهتما بإبراز ملمس اللوحة، وهو أسلوب كان يرسم به محمد مهر الدين وشوكت الربيعي وحميد العطار، حيث يتم (بناء) سطح اللوحة من مواد نافرة كالأسمنت والخشب وما إلى ذلك، والتي تجعل اللوحة بناء نحتيا ناتئا يعطيها قسوة تمنح الموضوع قوة تعبيرية وبعدا إنسانيا، ولكنه تحول بعد ذلك إلى اتجاه مضاد تماما، فقد شاهدت له في عمان مؤخرا، أعمالا شاعرية برهافة لونية واختزال شكلي شديد لأشكاله البشرية النسائية غالبا، إلا ان عام 2008 شهد تحولات انقلابية في تجربة فاروق حسن الشكلية وتوجهاته السابقة، ورغم ان تجربته الآن لم تتخل عن أشكاله السابقة، إلا على استحياء، فما زال  يترك بعض تلك الأشكال وسط علامات التجريد التي يحاول الآن أن يلجه ربما بخوف لا يسمح بترسيخ مرحلة جديدة تجريدية لهذا الرسام الذي قدم لوحات ذات طابع (محلي) ثري بالألوان والمحليات معا، إلا ان هذه المرحلة التي يمر بها منجز فاروق حسن هي مرحلة انتقالية ربما ستشهد تحولا جذريا سواء في فهمه لدور الرسم او في فهمه للرسم ذاته باعتباره ممارسة شيئية مادية على سطح.


عجيل مزهر ... البوب والمحيط


يذكر الناقد شاكر حسن آل سعيد انه منذ نهاية الستينات كان عجيل مزهر احد الممهدين للفن المحيطي دون أن يعلم، رغم انه كان فنانا بصريا optical  أو شيئا من هذا القبيل، وساهم في تقديم الفن الشعبي (أو فن البوب) في الفن العراقي .

من أعمال الفنان محمد مهر الدين

محمد مهر الدين ... من الملمس إلى الإشارية


بدأ محمد مهر الدين إنسانيا وتعبيريا في أعماله الستينية والسبعينية، فبعد إن كان مهتما برسم الإنسان في ثورته من خلال المادة الاستثنائية (الخشب والأسمنت ونحو ذلك) تحول إلى التكنيك اللوني المستمد من مدرسة روشمبرغ الأمريكي وفن البوب، حيث تمتلئ اللوحة بصور الإنسان النكتف، إلا أن الرسام تحول عن ذلك إلى رسم آثار الإنسان في المحيط من الكتابات والإشارات كالأسهم والدوائر ورسوم الأطفال وما إلى ذلك من مفردات أو (لقى)، ولكنه في كل مراحله، عدى الأخيرة ربما، كان مسكونا بالبعد الأيديولوجي في اللوحة.
 لقد شهدت السنوات الأخيرة تحولات في أسلوب محمد مهر الدين بالرسم ففي معرضه الذي أقامه في قاعة لاينز في العاصمة الأردنية عمان، بدا قصور إيمان الكثير من النقاد العراقيين بأن محمد مهر الدين قد انتقل من تقديس المشخص إلى ما يناقض ذلك، فبعد ان قضى سنوات السبعينيات وهو يرسم الإنسان فإذا به ينقلب على عقبيه، ورغم ذلك فان المظاهر خادعة غالبا، وان تجربة مهر الدين لم تنقطع عن التشخيص، بل خضعت لدرجات مضاعفة من والاسلبة التي أجهزت على (الوجود الشكلي) للمشخص، لكنها لم تقض على آثاره التي ظلت عالقة على سطح اللوحة، فمازالت موجودات ذلك الإنسان تتمظهر: أرقاما، وحروفاً، وشخبطات تملا الجدران، وهندسة، وكتابات، وثقوبا مقصودة .
فلم يكن مهر الدين رساما منقطعاً عن تجربته الماضية، فمازالت (موضوعاته) هي ذاتها وان تلبست نمطا يبدو مناقضا لخطه السابق، وان كذلك تغيرت عناوين لوحاته لتنسجم وعناوين اللوحات التجريدية: موضوع، تجريد....، إلا أن الوجود الإنساني مازال فاعلا في سنواته الماضية وان اتخذ تمظهرات أخرى ذات طابع أكثر شيئية.
يؤسس مهر الدين هندسة لوحاته بمستويين: مستوى هندسة سطحية من خلال التقسيم التربيعي او الثنائي الأفقي او ألمعراجي لسطح اللوحة، ومستوى غائر يسميه طهمازي (البناء الكثيف)، فحينما أطلعني الرسام مهر الدين على آخر أعماله كان ضمنها مخططات أولية لبعض تلك اللوحات كان قد أنجزها بالحبر وهي مليئة بالملاحظات المكتوبة، والمخططات والبقع التي ستمتلئ باللون لاحقا، وكانت تلك المخططات تبدو على درجة من الصرامة بشكل يذكّر بالدوائر الالكترونية التي لا تقبل الخطأ. وكان اشد ما أثار استغرابي إن كما كبيرا من الشخبطات التي اعتقد الكثيرون انه كان يضعها ليكسر بها رتابة البناء المحكم، هي موجودة ضمن هذه المخططات، وبذلك يكون مهر الدين صارما حتى في عفويته.
يبني مهر الدين لوحته في مستواها السطحي من: أولا، مستوى سطحي تصويري لوني غائر مليء بالانقطاعات، تلك التي كان ينجزها آل سعيد في جسد اللوحة المليء بالخروم والثقوب والثلمات، وقد بدأ مهر الدين بانجازه من خلال اللون انقطاعا بالمساحات اللونية؛ الأمر الذي خلق خروقا يستوجب ملأها، وهنا لا يترك مهر الدين متلقيه حائرا في إمكانية ملء هذه الخروم بل يلقي لذلك المتلقي بمجموعة من المفاتيح يبثها في فراغ اللوحة وعلى المتلقي أن يلتقط دليله منها، وثانيا، من مستوى اشاري سطحي يشكله حشد من العلامات التي بعضها مقروء، وبعضها غير مقروء، وغير المقروء هنا (مضمر) الدلالة كإشارة الإلغاء او الرفض (x) وهي اشارة كرسها مهر الدين منذ مرحلته المشخصة في السبعينيات. أما الإشارات المقروءة فقد ظهرت من: عبارات مقروءة وذات معنى إلى حروف مقروءة عربية ولاتينية ولكنها لا تشكل نصا ذا دلالة لغوية، ومن إشارات كاليغرافية صورية مستلة من نمط معين من الكتابة البكتوغرافية، ولكن رغم أن اختيار مهر الدين لتلك العلامات كان اختيارا واعيا في أحيان كثيرة إلا انه يدخلها مختبره الشكلي لتتحول العلامة بعدها إلى اشارة شكلية تنتمي إلى شيئية اللوحة، وعناصرها التكوينية وليس إلى نص لغوي مدون قابل للقراءة كما هي حال أعمال الخط العربي المقروء، رغم انه يهدف من كلا نمطي العلامات نقل إحساس بالرفض وفوضى الواقع للمتلقي بشتى هذه الوسائل (البصرية).
لقد انتبه الكاتب عبد الرحمن طهمازي إلى مستوى غائر يسميه (البناء الكثيف) في لوحات مهر الدين حينما يقول "مازال مهر الدين يبني العمل على مراحل لكي يصل إلى السطح" وهو ما يسميه (كثافة البناء الدفين)، كما يقيم هندسة لوحاته وفق مخططات أولية دقيقة تماثل وتوحي أيضا بخرائط الدوائر الكهربائية والالكترونية، فهو يقسم (جسد) اللوحة غالبا، وخاصة لوحاته التي اتخذت شكلا دائريا، وكانت أعدادها كبيرة في معرضه الأخير، تقسيما تربيعيا يتطابق بطريقة شكلية مع العنزات الدائرة حول نبع في فخاريات سامراء، او ما يسميه شاكر حسن آل سعيد (النظام التربيعي) الذي ظهر في حدود الألف الخامس قبل الميلاد وشكّل "الأساس الذهني لنظام الوفق"، والذي سبق ظهوره الكتابة المسمارية وشكل مقدمة لتلك الكتابة، وربما شكل كذلك جذرا لا واعيا لان يكون التقسيم التربيعي تبشيرا لشكل جديد من اللغة او من الكتابة التي تبشر بشكل الكتابة في العصر القادم لتتحول من رقائق إلى اضوية وأرقام وحروف على شاشة أجهزة الحاسوب.
عند مقارنة إعمال مهر الدين التي كان يلصّق بها مختلف المواد ليجعل سطح اللوحة ناتئا بطريقة استثنائية ومبالغ بها، مع أعماله التي أنجزها لتعرض في معرضه الأخير هذا، لن نجد إلا فروقات طفيفة في الدرجة أهمها: كبح المبالغة في الملصّقات، وهيمنة اللون حيث "لا يقوى مهر الدين على كبح جماح قدرته على التلوين" كما يقول طهمازي، رغم إن ذلك التلوين عاد أحاديا، كما كان أيام السبعينيات، إلا انه ما زال عنصرا فاعلا في الواقعة الشيئية للوحة، وأخيرا انتفاء الرغبة بالتشخيص مع الشكل البشري رغم بقاء مشخصات أخرى تشكل أثرا له ومنها الحروف ومختلف العلامات الأخرى


عيسى عبد الله ... اللون الفائض


إن المهيمنة الأعظم في منجز عيسى عبد الله هي الاختزال اللوني الشديد، الذي يؤطر اختزال الأشكال، فكان الإنسان (المرأة على وجه الخصوص) هي الشكل المهيمن في لوحته، بجديلتها التي تجيد، هي أو الرسام ذاته، ترتيبها بشكل خاص !!، وبذلك فهو وهاشم تايه يقتربان من الناحية الأسلوبية في كون لوحتهما تبدو ذات بنية شكلية وخطية مكتملة فتمت إضافة اللون إليها في مرحلة تالية، وبشكل لم يؤثر على بنيتها المعمارية الشكلية.

من أعمال الفنان فيصل لعيبي

فيصل لعيبي..  إعادة تأسيس قوانين المنظور:


الوضع الأمثل وتعدد وجهات النظر

إذا اقترحنا إجراء معايرة بين تجربتين قريبتين من بعضهما ليس فقط شكليا؛ بين تجربتي فيصل وعفيفة لعيبي؛ فإننا نجد أن عفيفة لعيبي ترسم شخوصها منفردة ومتوحدة وساهمة تناجي نفسها، وهي لم تصل او ربما لم تضع في أولويات اهتماماتها، تقديم مقترح تطبيقي للتعبير عن الروح المحلية بأسلوب (حداثي)، أو أكاديمي بشكل أدق، بموجب اشتراطات التقييس لخطاب جماعة بغداد للفن الحديث، بينما ترجم فيصل لعيبي الروح المحلية عبر رسم (النماذج النمطية) التي يعتقد أنها تجسد ذلك الطابع المحلي عبر موضوعات مثل: مقاهي بغداد، فتى عربي بزيه التقليدي المحلي العراقي، بائع الفواكه، مقهى إبراهيم، فرقة الموسيقى (الجالغي البغدادي)، صباغ الأحذية، الحلاق، جاسم المكوجي، المصور الفوتوغرافي (الشمسي)، مرزوق الجايجي.
لقد كان الهمّ الأكبر الذي هيمن على تجربة فيصل لعيبي هو إعادة تأسيس فن الرسم الرافديني، والإسلامي القديم، فن تصوير الكتب بشروط اللوحة المسندية، وبذلك يكون منجز فيصل لعيبي مقترحا متأخرا جدا، متأخرا قرابة نصف قرن تماما عن مقترح جواد سليم وزملائه، مقترح يوضع على قدم المساواة معهم تماما.
يبدو ان فيصل لعيبي قد اعتقد بان (الطابع المحلي العراقي) لن يتحقق إلا بإعادة تأسيس تراث الرسم الرافديني العربي الإسلامي من خلال تلك الموضوعة التي يرسمها وفق أسس أكاديمية بما فيها من مكتشفات تشريحية ومنظورية مختلفة، وهو ما نعتقد انه المساهمة الأكثر أهمية لهذا الرسام في تاريخ الرسم العراقي الحديث، وليست تلك الموضوعات (الفولكلورية)، وهو أمر قد يبدو مستغرباًَ للوهلة الأولى من الكثيرين، إلا أننا نعتقد ان ذلك هو جوهر تجربته الذي اندثر تحت ركام هيمنة وهم موضوعة (الطابع المحلي العراقي) التي وقع تحت طائلتها معظم المتلقين، والنقاد الذين تناولوا تجربة فيصل لعيبي، فتوهموا أنها الثيمة التي تضم في طياتها (كل) منجز فيصل لعيبي، وهو الأمر الذي أوقع معظم هؤلاء في حبائله، صحيح ان فيصل لعيبي يسير في ذات الهدف الذي سار عليه جواد سليم ورفاقه الذين أسسوا جماعة بغداد للفن الحديث عام 1951، إلا انه يفارق مقترحاتهم التطبيقية، تماما مثلما يفارقهم كل الرسامين (الواقعيين) الذين ظهروا في العراق من الذين صوروا (الروح المحلية) بأنها نقل أجواء البيئة العراقية، سواء أتباع فائق حسن من الواقعيين الانطباعيين، او أولئك الذين درس قسم منهم في الاتحاد السوفيتي السابق او تأثروا بالفن السوفياتي والجداري المكسيكي ومنهم: محمد عارف وعفيفه لعيبي وماهود احمد وكل هؤلاء لم يتضمن مقترحهم للتعبير بالروح المحلية أي تجديد جوهري او زحزحة أسلوبية عن أساليب جاهزة تم نقلها إلى الرسم العراقي.
لم تقنع الحلول التي تم تقديمها سابقا لموضوعة (الروح المحلية) فيصل لعيبي فعاد لطرفي المعادلة في محاولة لتطويع طرف لآخر وإيجاد أرضية مشتركة بينهما، فدرس فن الرسم الإسلامي والفن الرافديني القديم واستعار تأثيرات بنيوية جوهرية هي:
•أولا، إعادة النظر بقواعد المنظور من خلال حلول تقنية منها استخدام ما يسميه آل سعيد (المنظور التكراري)، وهو واضح في نموذجه الأهم لوحة (مقهى بغدادي)، فلم يتقيد فيصل لعيبي بقواعد (المنظور) المعروفة، إلا انه كسلفه الواسطي، وكأسلافه العراقيين القدماء، استطاع ابتكار حلول تقنية تعبر عن فعل هذا النمط من المنظور بما يسميه آل سعيد (المنظور التكراري) الذي يصفه بأنه يتمثل في "طريقة رؤية الأشخاص متفاوتي المسافة على أرضية منبسطة"، أو عن طريق ما يسميه (المنظور البعدي)، وهي "طريقة رؤية الأشخاص على مسافات متفاوتة" كأن "يكرر أوضاعهم، أو يقرب بعضهم من أسفل اللوحة المرسومة، والبعض الآخر من أعلاها، فكانت أشكال اللوحة ترتكز بمستويات متعددة في أرضية اللوحة فتعطي المتلقي إحساسا بالعمق (البعد عن المتلقي)، كما كانت ترتكز الرسوم الإسلامية، والمنحوتات الناتئة (الريليف) في الفن الرافديني القديم، وبذلك قد تكون فكرة آل سعيد (بالاستعاضة عن المنظور الجوي وهو مغزى الوهم الواقعي، واتخاذ المنظورين: التكراري والبعدي، مطبقة في منجز فيصل لعيبي، ولكنها ليست مطبقة بمفردها، فنحن نعتقد إنها لا تحيط تماما بالمشاكل التقنية الكبيرة التي واجهت الرسام فيصل لعيبي لو طبقت منفردة، وان الحلول التقنية التي اقترحها لحل مشكلة الفضاء حينما كان يتجه نحو توظيف المنجز الرافديني القديم والإسلامي في عمله، مع  الإبقاء على وهم البعد الثالث، وهو مستعار من الرسم الأوربي، الذي يمنح الأشكال امتلائها، كانت تراكيبه معقدة ومتنوعة، بينما  كانت رسوم سلفه الواسطي مسطحة، فكان ما تلمسه شاكر حسن آل سعيد كافيا لحل مشكلة تمثيل الأشكال والإيحاء بأوضاعها، وأبعادها، وأحجامها، وان الخلط بين تلك التقنيات الشكلية المتعارضة جعلت الأمر معقدا، فقد قام بخلق فضاء غامض ومضغوط بقصدية، فكان يحاول (تركيب) أسلوب منظوري وهمي متعدد الزوايا (اتجاهات النظر)، يحدّه في ابعد نقاطه عن المشاهد جدار يجعل الفضاء مقعرا ومشابها لفضاء علب السردين، والبيوت الزجاجية للأسماك، فتبدو أشكاله فيه طافية في الفضاء كالأسماك، على أبعاد مختلفة في العمق من عين المتلقي، وان ما يزيد الأمر تعقيدا إن أرضية اللوحة التي كان يرسمها الواسطي، والعراقيون و المصريون القدماء لتستقر الأشكال عليها، قد غدت جزءا من أسفل الخلفية المحايدة (الجدار) المواجهة للمتلقي، وبدت الشخوص طافية في الهواء أمامها، وعلى ارتفاعات مختلفة في المساحة التي بين المتلقي والخلفية، دون أن تستند إلى الأرض.
لقد اتجه فيصل لعيبي إلى نمط من التشويه (الايجابي) في تحويره أشكال المشخصات، وهو ما يعرف (بالوضع الأمثل)، الذي تتخذ فيه المشخصات أوضاعها الأكثر مثالية، من الناحية الشكلية، حيث تُظهر أهم خصائصها الشكلية، وهو إجراء طبقته فنون حضارات عديدة منها الفن الفرعوني والفن الرافديني القديم والفن الإسلامي، فالعين والأكتاف كانتا تتخذان الوضع الأمامي، بينما يتخذ الوجه والأقدام الوضع الجانبي دائما. لقد اتخذ فيصل لعيبي إجراءين شكليين في تحقيق قدر من التشويه هما: أولا، تشويه قواعد المنظور، وتعدد زوايا النظر، وثانيا، تشويه نسب الجسم البشري، وتشريحه، واتخاذ كل جزء فيه وضعه الأمثل. لقد انطلق فيصل لعيبي في تشويهه لقواعد المنظور من تتبع خطى محاولات عدد من الرسامين الذين كانوا يخلطون عن عمد بين عدد من زوايا النظر، فإذا استثنينا التجربة التكعيبية التي اختلطت فيها كل وجهات النظر في لوحة واحدة، فقد كان أول هؤلاء الرسامين الذين لا يحسبون من التكعيبية، وأشدهم تطرفاً في ذلك، الرسام الفرنسي هنري ماتيس الذي تحضرني هنا لوحته (راحة الموديل) حيث تختلط فيها زوايا نظر متعددة في لقطة واحدة أهمها: وضع المنضدة، ومنظور وفضاء الغرفة، وهو الأمر الذي ركز عليه فيصل لعيبي بشكل جوهري في إحداث زحزحة في (زاوية النظر)، فبينما اتخذت (صينية) وصحن الشاي وضع عين الطائر، اتخذ قدح الشاي (الستكان) الوضع الجانبي، فيما احتفظت علبة الثقاب بمنظور ثلاثي الأبعاد لان لا وضع امثل يتيح تمثيل أهم  خصائصها من منظور مسطح.
•ثانيا، لقد تجسد الخوف من الفراغ عند فيصل لعيبي بمحاولته الحثيثة لردم فراغات اللوحة بشكل تام التوازن سواء من خلال عدد الشخوص أو من خلال توازن نسبي يحفظه ثقلها اللوني ونحو ذلك من الأساليب التقنية التي تحقق ردم الفراغ، بعد إن ملأ فيصل لعيبي النصف الأعلى من اللوحة بشخوصه المرصوفة، وكجزء من كفاحه لردم الفراغ المحايد المخيف، يجد فيصل لعيبي حلا تقنيا مهما لملئ أرضية اللوحة بمربعات متعاقبة التلوين، تمثل بلاط الأرضيات، مرصوفة كنظام تلوين رقعة الشطرنج بألوان غامقة ثم فاتحة على التعاقب وبشكل يحقق درجة من الهارموني مع الخلفية التي توضع فوقها، كما قام بملء مساحات الأثواب الملونة بطيات ذات طبيعة زخرفية تكسر أحاديتها اللونية، لتختلف عن الخلفيات المحايدة.
•ثالثا، خرق قوانين التشريح ونسب الجسم الإنساني كجزء من تحقيق (الوضع الأمثل).
يثبت فيصل لعيبي إذن، إن (التعبير عن الروح المحلية)، ذلك (القانون) الذي هيمن على الفن، والنقد التشكيلي خلال الفترة التي سبقت ستينات القرن الماضي، مازال مقترحاً يمكن اغناؤه بالمزيد من التجارب، ومنها مقترحه بإعادة تطويع الرسم الأكاديمي لقوانين الرسم الإسلامي والرفديني القديم، وجعله قادراً على التعبير عن تلك الروح العراقية التي بدا فيصل لعيبي مأخوذاً بها بشدة، أو قل هي متاعه في غربته التي استغرقت عقوداً، وإن منجز فيصل لعيبي الذي يبدو رسوما (بسيطة) لا تحتاج مؤهلات قرائية قبلية، ولا تفعل في المتلقي سوى إثارة المزيد من الذكريات مع إكسسوارات اللوحة التي يبثها بشكل باذخ ومتوازن، عند المتلقي العادي، بدت لنا تجربة مليئة بالحلول البصرية الجريئة والمتفردة، ومقترحا يشكل إضافة جادة في معالجة الفضاء التي تبقي سمات الفن المسطح العراقي القديم والإسلامي، مضافا له المعالجة بالأشكال الأكاديمية التي تبقي على البعد الثالث حيثما كان ذلك ضروريا. 

من أعمابل الفنان هاشم حنون

هاشم حنون ... البنى الأيقونية


يؤكد اتكاء منجز هاشم حنون على أيقونات فن ما بين النهرين كبنية هيكلية،  تشبـّع الرسام (بجينات) الفن العراقي الرافديني القديم مما يبقي النسغ الرابط بذلك الفن قويا في كل انتقالاته بين التشخيص والتجريد وتطابق رؤيته و الرؤية السائدة للفن العراقي الرافديني القديم في كونه امتزاجا لرؤيتين قد يبدو من الغرابة والصعوبة تحقيق امتزاجهما معا: حيث لا تقيم أولاهما الاعتبار لما هو خارجي، قدر انصرافها إلى الداخل، فتجد في التجريدي ضالتها. بينما ينصب الاعتبار الرئيسي عند الأخرى، على الموضوع الخارجي المرئي، لذا نحن لا نعتقد أن التحولات الأسلوبية التي توضحت مؤخرا عند هاشم حنون كانت دون مقدمات (وهذه عندنا تقوم مقام المسببات الجوهرية)، بل  حدثت بفعل تغييرين جذريين في فهمه لما هو الهي و سام و رفيع و روحي و مقدس أولا، ولدور السطح التصويري ثانيا، ليس باتجاه التجريد فقط،  كما ذكر الناقد فاروق يوسف، بل باتجاه محاولة تحقيق اكبر اقتراب من المادة التي يشتغل عليها، وعبر معالجة تقنية لأحافير اقتطعها من نسيج حائط، من قطعة جنفاص عتيقة متهرئة (كان يلصق خرقا من الجنفاص المتهرئ على سطح اللوحة)، وربما من أي سطح صدأ ترك الزمن بصمة مكوثه الطويل عليه، أو مقطع عرضي اخضع لمعاينة مجهرية، والأهم من كل ذلك، حدوث تحول مهم في فهمه للوحة، منذ سنوات قليلة، باعتبارها حقلا (سطحا) مسكونا بالأصباغ والخطوط والأشكال، يخضع لضروب شتى من تجارب الفنان الشكلية والتقنية، أكثر من كونها تكوينا، أي بمعنى آخر أن تمثل اللوحة شيئا أكثر من أن تكون تشبيها لشيء.
ورغم حرصه الواعي على إخفاء (مصادره الواقعية)، إلا أن مصدر الشيء (فكرة الشيء) أو بكلمة أدق (بصمة الواقع التي لا تمحي) تكون قد تركت (علامة لا يمكن إزالتها)، لأنها (الجرثومة الطوبولوجية) التي هيكلَ الفنان بناءَ لوحته عليها بطريقة لا واعية منذ وضع أولى لمساته على سطح اللوحة. فرغم الحرص الواعي للفنان على إخفاء مصادره الواقعية، فهو لم يتمكن إلا من قمع بعض العناصر الأولى حيث تظهر بضعة اختيارات من جزئيات الشكل، بينما قمعت تفاصيل محددة من اجل إفساح المجال للذاكرة أن تضيف عناصرها المكملة، إنها ذاكرة تمتد إلى الفن العراقي الرافديني القديم الذي تمثله ثقافيا و جينيا.
يبقى إذن اثر علامات الواقع (عناصر المدينة) جاثما،  فاللوحة تملؤها: حشود من  شخوص وأجزاء شخوص، وجوه، أطراف، بيوت، أجزاء بيوت، شبابيك، منائر و قباب جوامع مزججة وأئمة، أسواق، بضائع، جسور، إشارات، جدران، أرصفة، ذهب ونفايات، حيوانات سائبة، شواهد قبور، نخيل، طرق، تمائم، دوائر وأشكالا هندسية، عربات باعة، بقع، ضوء وأقواس قزح، وسيل عارم من الرموز والأشياء والشفرات والمتاهات،فاللوحة تبنى بشكل مسرب لوني يشقها طوليا يملؤه مثار من ألوان وإشارات وشخوص،وما عنّ للذاكرة أن تلقي بمحتوياتها، حشد مكتظ تكتسحه قوة إعصارية ترفعه من قاع اللوحة إلى الأعالي   .
لقد قدم هاشم حنون مؤخرا تجربة تخطيطات لم تعرض حتى الآن، وقد أطلعني عليها بشكل شخصي، فدُهشتُ ليس فقط من طريقة انجازها، بل ومن انجازها أساسا، فقد كنت اعتقد جازما ان الرسام هاشم حنون ليس رساما مخططا، بل كنت اعتقد انه رسام لا يخطط بل ولا يمكن ان يخطط، لأنه وأمثاله يفكرون بطريقة ملونة فإذا به يفاجئني ويخطط، رغم انه لم يخطط بطريقة تقليدية مثل المخططين الآخرين، فقد كان فعل تفكيره (بطريقة ملونة) جاثما على تخطيطاته، فكل تلك التخطيطات التي اطلعت عليها سابقا كانت ليست سوى مخططات أولية للوحات غير منجزة او تنتظر الانجاز، بينما جاءت تخطيطاته التي أطلعني عليها مؤخرا مليئة بالخروم اللونية التي تتخللها، هنا او هناك، فهو يرسمها كما لو كانت مشروعا للوحة او ربما مخططا أوليا (سكيجا) لوضع اللون عليه لاحقا.
يضع هاشم حنون صفحة تخطيطاته ميدانا لاشتغال الفجوة، وتتحقق جغرافية هذه البياضات في تخطيطات هاشم حنون في الفراغ الناشئ من غياب اللون مما يعني إنها مفهوم (بصَََري) وان ملء هذه الفجوات البصَرية (اللونية) هي الفاعلية الأهم التي يهيئها الرسام هاشم حنون في تخطيطاته، والتي هي أهم فعالية مطلوبة من القارئ في تلقّي هذه التخطيطات؛ وبذلك تكون هذه الفجوة خرقا، او إحداثا لخلخلة في الوئام الطبيعي الذي يلف لوحات هاشم حنون الملونة؛ وبذلك فهو يخلق ذات الفجوة التي يصنعها مجايلاه الرسامان هاشم تايه وعيسى عبد الله من البصرة ولكن بطريقة معاكسة حيث يرسم هذان الرسامان لوحاتهما الزيتية بروح تخطيطية يشكل اللون فيها عنصرا مضافا؛ بينما يعكس هاشم حنون المسألة فيرسم تخطيطاته بروح اللوحة الزيتية ويكون الخط هو ذلك العنصر المضاف.
تتناص أعمال هاشم حنون مع العديد من المرجعيات، خارج وداخل فن الرسم، فهو لا يتحرج من تفعيل كل الجينات الممكنة في الفن او خارجه من تلك التي يمكنها ان تنتقل إليه بشكل عفويٍ ويسيرٍ لتندمج في لحمة منجزه تماما، إلا انه أيضا لا يتحرج من التناص الإبداعي مع منجزه السابق كذلك، فيستل منه أيقونات أثيرة لديه، وأشكالا سبق ان احتلت مكانا أثيرا في منجزه، فتتوالد مراحل تجربته بيسر؛ مرحلة عن أخرى، مما جعل تحولاته قادرة على ان تحفظ أسلوبه الخاص وشخصيته المتميزة ولا تحدث اختلالات كارثية في طريقته بالرسم؛ رغم انها تضيف لمنجزه في كل مرة لمسة جديدة مؤثرة، فقد كانت أشكال شخوصه في تجربة تخطيطاته هذه تبدو وكأنها مستعارة من عمق تجارب الر سم الخمسيني العراقي من خلال أشكاله التي تبدو اقرب ما تكون إلى أشكال فائق حسن في لوحاته القليلة التي تأثر بها بدعوة (التعبير عن الطابع المحلي) والتي كان فيها يختزل أشكاله إلى مساحات لونية مسطحة نقية تقريبا، لقد استعار هاشم حنون تلك الأشكال وأدخلها مختبره الشخصي في لوحاته الملونة، وها هو الآن يزيح عنها دثارها الملوّن، ويحتفظ بمحيطاتها الكفافية التي كانت تصنعها الألوان المتجاورة، لتتحول عنده، في التخطيطات، إلى خطوط حقيقية وعلى القارئ ان يعيدها سيرتها الأولى باعتبارها خطوطا كفافية وهمية تفصل بين مساحات لونية بعد ان يكون قد ملأها ثانية بألوان خياله الشخصي.
ان الفجوة التي يتخذها هاشم حنون استراتجيا ثابتا في بناء تخطيطاته، مفهوم شيئي (متيريالي او ملموس)، وان ملء هذه الفجوات هو فاعلية يقوم بها المتلقي، لذا فهي فاعلية تشمل اللوحة والمتلقي معا، وعلى الأخير ان يستند في ذلك على مخزوناته من الخبرة السابقة.
يظلل هاشم حنون أجزاءً من تخطيطاته ويترك أجزاء أخرى خطوطا خارجية فقط، وفي ذهنه ان تتخذ الأشكال الداكنة في التخطيط وجودا لونيا ثقيلا ورئيسا في اللوحة، بينما لا تتخذ الأشكال التي حددت بالخطوط الخارجية فقط سوى وجودا شبحيا متناغما ومندمجا بقوة، بل ومندغما في سطح اللوحة ودرجاتها اللونية.
يعود هاشم حنون، في تخطيطاته، إلى قداسة الشكل الواضح، محدد المعالم الذي نستبين ملامحه، ذلك الشكل الذي هجر ملامحه الواضحة والمستقلة بعد معرضه الذي أقامه عن الشهيد في قاعة الرواق عام 1990، وكانت أعماله فيه تعبيرية اشِتغلها الرسام بعناية فكانت معالمها واضحة، ومدروسة، تماما كأشكاله في تخطيطاته التي أنجزها مؤخرا، وفيها يؤكد هاشم حنون تقديسه للشكل وحدوده الواضحة والقاسية، ويعيد فيها تقديسه للخط ودوره في بناء تلك الأشكال.

من أعمال الفنان عبد الملك عاشور

عبد الملك عاشور ... مفروكات لا تنتهي بأشكال الواقع


إن عملية إنجاز اللوحة عند هذا الرسام ومن ينحو منحاه، وكما هي عند فناني (رسم الحدث (Tachisme  يشكل جزءا جوهريا من متحققها النهائيّ، ومفتاحا مهما لبلورة مقترب دقيق منها، فهو يبدأ عمله أولا، بأن ينقل سطح اللوحة الذي يشتغل عليه، من وضعه الأملس إلى كيفية يتخذ فيها ذلك السطح  شكلا خشنا مملوءا : بمتعرجات Meanders  وآثار وما شاءت الصدف من  مواد تلقى عليه، لتشكل لعين الرسام (ملمسا) من (مستحـثات) يمكن أن توفر طاقات محفزة لظهور الشرارة التي توقد الرؤيا فتمنح تلك الآثار طاقة تجعلها قادرة على تلبّس (تحولات شكلية) باتجاه (أشكال مطلقة)، بالمعنى الفلسفي، وليس الهندسي و الطوبولوجي، مما يبعدها عن أية مقارنات أو إحالات إلى أشياء الواقع التي تتخندق ضمن أحد الأشكال ذات المحيط الكفافيّ المماثل في نهاية المطاف .
حاولت مرة اختبار (قانون) مالرو في الفن التشكيلي واندريه مالرو هو وزير الثقافة الفرنسي، أيام حكم الجنرال ديجول، ويقرر (قانونه): "أن الفنان يقلد الطبيعة في مراحله الأولى، بينما يقلد الفن في مراحله المتقدمة" وبذلك يحدد قانون مالرو الفواعل ( الآباء) الثلاثة في العملية الإبداعية الفنية وهي: أولاً، الفنان، وثانياً، الفن الذي يكون مثاله الطبيعة في المراحل الأولى، وثالثاً، العمل الفني، ووضع مالرو الطبيعة باعتبارها المركز المهيمن على العملية الفنية في مراحل الفنان الأولى، بينما يهيمن نسق الفن السائد على تجارب الفنانين في مراحلهم المتقدمة، حيث يبدأ هؤلاء بتقليد الفن حتى عندما يرومون تناول مشخصات الواقع (=الطبيعة) أي أن نسق الفن هو الذي يتناول الطبيعة  وليس قوانين للطبيعة مباشرة وقد اتخذت وقتها تجربة الرسام عبد الملك عاشور نموذجاً، وكنت قد صنفته مع من أسميتهم رسامي (المفروكات frottahge)  فبعد ان قضى سنوات معتكفاً في مرسمه، مع صديق عمره الرسام هاشم حنون، يقلد إشكال مشخصات الواقع، فإذا به يتجه صوب أولئك الرسامين الذين يضعون المادة (=اللون والعناصر  المادية الأخرى التي تشكل الواقعة الشيئية للعمل الفني وتكنيكاته المختلفة) يضعونها باعتبارها دافعاً محفزاً لاكتشاف تشكلات صورية، تماماً مثلما نرى أنماطاً من المشخصات في الجدران الرطبة، وفي الغيوم إلا أنه وخلافاً لأولئك الذي لم يزالوا في مراحلهم الأولى، الذين يبحثون عن ما يماثل تلك المفروكات من إشكال الفن ذاته، أي مع انساق الفن المهيمنة، كان يضع المستحثات المحفزة للرؤية على سطح اللوحة لتدله لا على إشكال الطبيعة وإنما على إشكال الفن  المهيمنة، وهو ما لمسناه من متابعتنا الحثيثة واللصيقة لتجربة الرسام عبد الملك عاشور، ذلك الرسام الذي تحول الآن إلى نقل منطقة اشتغاله من تقليد أحد عناصر العملية الفنية إلى التوغل في الوجود الشيئي للوحة بحثاً عن التنسيق الفردي، وهجر إتباع المثال (سواء كان مشخصات الطبيعية أو الأنساق المهنية) إلى محاولة أبداع ذلك المثال أولاً، وثانياً جعل لوحته تجربة (أمبريقية) تخضع المادة لها، وتخضع لها كامل الواقعة الشيئية، وبذلك يكون عبد الملك عاشور، قد تمثل التحول الأهم في الرسم الحديث الذي لم يكن إلا اكتشاف (اللون المسطح lacouleurapl)  الذي كان الاكتشاف الأكبر للنصف الأول للقرن العشرين والاختراع الكبير لفناني مدرسة باريس، كما يذكر بيرفانكاستيل، فيكون عبد الملك عاشور أذن قد دخل مرحلة أخرى في يتنقل فيها من مراحله السابقة التي تضع مثالاً خارجياً لها، إلى مرحلة الاشتغال على (اللون المسطح) وتفعيل الواقعة الشيئية باعتبارهما جوهر الرسم الحديث.
 يصف الشاعر حسين عبد اللطيف تجربة الرسام عبد الملك عاشور "الفنان عبد الملك عاشور يعمل في منطقة تجريدية، ويتمحور عمله في صراع الكتلة مع الفراغ، والكتلة عنده بمثابة العلامة الايقونية او ما يشبه لازمة (الرأس) في المنجز الفني لعلي طالب، او هي الأرض بمحمولاتها، بتضاريسها، ووهادها، وكثبانها، آخذة مسارا معراجيا" (صحيفة الأديب، العدد 79 في 6 تموز )2005) ويحلل تلك الكتلة بأنها "قطع من الكانفاس او عجينة متراكمة من الزيت المداف بالرمل" (

من أعمال الفنان هاشم تايه

هاشم تايه ... عالم الرغبات السرية


يتمتع أبطال الرسام هاشم تايه، وهن إناث دائما، (شخصيات مؤسلبة على نحو تعبيري)، تتوفر على سطوة وهيمنة وقدرة انشطارية،  كما هم الأبطال دائما في الأساطير - وهو ما سبق وأكده كارل كوستاف يونغ في دراساته عن الأحلام - وغالبا ما تحتل، هذه الشخصيات، الجزء الأعظم من مساحة اللوحة : أنثى، تهيمن على المشهد، ينبثق منها او على وشك ذلك، او يلتصق بها، او يتسلقها، كائن بهلولي يتقافز حولها قردا صغيرا او كائنا شبيها به، وقد يلتصق بها كالقرادة أو يخرج من مكان منها كالثألول، كائنا صغيرا، طفيليا، قد يبدو مزعجا، ولكنه يبدو ضروريا لاكتمال وجودها !، رغم ان صديقنا الكاتب فائز ناصر الكنعاني يصفه بأنه شخصية ثانوية… وعبئ على الشخصية التي يصفها بأنها(الشخصية الأساس)، (امرأة تشكل عالما مستديرا مغلقا ومعتما، ومنكفئا الى مركزه، تهم بواحدة من يديها بإدخال رجل، بحجم دمية، من فتحة تفضي الى الخارج) ويصف العملية كلها بأنها (ضرب من الاستبطان النفسي، ينم عن الرغبات السرية)، و هي تجارب ذات طابع سادي يمارسها الفنان على شخوصه الخرافية حينما يضعهم في غيابة اللوحة، وقد حجزت حيزا من فراغها، واقتعدت موقعها من أرضيتها وتحولت الى أرضية تنبثق من فجواتها ونتوءاتها حيوانات وأشكال آدمية أخرى كما لو كانت أعضاء جديدة، بهيأة الكائن الآخر العبء على (الشخصية الأساس).
بينما يقيم المخطِّـط هاشم تايه أعماله على تنافذ استعاري بين مستويي العمل لديه : البساطة و القوة، والبساطة تعني ببساطة التخلص من الشوائب الزائدة في الشكل، وهو توجه تقليلي يحاول الاكتفاء بأقل قدر من الخطوط الضرورية لبناء الشكل، فكما يصنع الصغار الوجه الإنساني من كلمة (ملح) التي يمطون نهاية الحاء لتشكل دائرة تلتف حول الميم لتلتقي مع رأس اللام، فقد كان يطلق حركة نقطة (من مكان مجهول من الشكل) خط يصنع أشكالا طوبولوجيا مغلقة، ينتهي من حيث يبتدئ، يحيط الشكل، فيصنع بذلك شكلا مغلقا معزولا، بالخط الخارجي عن بياض الورقة المحيط به، تماما كما كان يصنع العراقيون القدامى جدارا محيطا لمعابدهم بهدف المحافظة على قداستها بعزلها عن المحيط الخارجي، وكانوا يسمون ذلك الجدار كيسو، خط لا بداية له هنا ولا نهاية، يبتدئ من أية نقطة وفيها ينتهي لصنع أشكاله المغلقة، خط لا انقطاع فيه، ولا وجود لتعاقب ارسطوطاليسي من البداية مرورا بالوسط وانتهاء بالنهاية، هو زمن متعاقب مستمر ابدي لا ينتهي، فلا وجود إذن لزمان يمكن ان نؤرخ له بتحرك النقطة، وكأنما انهت الحركة الدائرية للنقطة البعد الزماني الذي يستوجب تسجيلا للتطور الخطي.
يتجسد البعد الآخر للتكوين (= القوة) في جرأة الخط، أو جرأة النقطة التي يبدو أنها تعرف مسبقا خط سيرها، لذا تترك أثرا لها خطا قويا محفورا على بياض الورقة، يمتلك حدة واضحة، خط يمتلك ثقة ومقدرة على فصل مساحتين من نفس اللون (=الأبيض)، لذا فهو خط حقيقي يختلف عن المحيطات الكفافية الوهمية التي تفصل مساحتين لونيتين مختلفتين عن بعضهما، وذلك راجع الى ان التكوين الخطي تصنعه خطوط حقيقية (محفورة) على بياض الورقة يصنعها المداد الأسود الفاحم.


جنان محمد ... هيمنة المشهد اليومي


لقد رسمت جنان في بداياتها الفنية أزقة المدينة البصرة القديمة، وبيوتها وشناشيلها  و باصاتها الخشبية وهي تتكئ على جدران البيوت وكأ،ها كائن متعب يغفو عند أحد الأبواب رسمت الترع والقناطر وانعكاس الأشجار والنخيل على صفحة الماء والأزقة والأسواق المكشوفة و الأسواق المسقوفة بلقطات مفتوحة لشناشيل أنجزتها الفنانة برؤية شبه زخرفية، تتنوع فيها المواد المستخدمة إلا أنها كلها تتوفر على شاعرية مكانية فالألوان المائية بلطخاتها الشاعرية الشفافة وألوان الباستيل التي يهيمن فيها اللون الحليبي  والأصفر ألفانكوخي على مركز اللوحة اليابسة بينما تنعكس صورة ذلك في الماء  الذي يحتل الجزء الأسفل  من اللوحة وقد تحتل الجزئيين السفليين أحيانا دروب إفعوانية تخترق الحشائش والأعشاب لتنتهي دائما بأشجار نخيل باسقات ترتفع إلى قمة المشهد أحيانا تكون اللوحة واقعة تاريخية تسجل حدثا ومعلما ساعة سورين، قنطرة نظران، العشر، ولكن أبدا تبقى اللقطة فرصة لاختبار القدرة التقنية في خلق الأشكال والتداخلات اللونية والخطوط بعد سنوات من الحوار مع الطبيعة، انتقلت الفنانة جنان محمد من هيمنة  المشهد الطبيعي إلى هيمنة الأيديولوجي وفيها برز التشخيص باعتباره محيط التلامس الكفافي الأوسع، بين الواقع والفكرة فجرى تحريف  النسب والألوان وكل القوانين المتعارف عليها فاكتسى المشهد برمزية سحرية حيث الوجود الملغز للشبابيك والأبواب الموصدة والعوالم (المنغلقة) للنساء العمياوات المنكفئات والمنطويات على أنفسهن وأسرارهن نساء غارقات في لجة تفكير وحزن حينا ونساء متمردات يتجهن بأنظارهن وأفكارهن صوب السماء يرفعن أيديهن ضراعة أوي رفعن الشهداء سماء تملؤها شرفات (مغلقة)، أو فضاءات متسعة مشعة فارغة تارة وتارة مملوءة  بصحف منشورة أو غيوم  تمنّ على من يستصرخها بقطرة ماء يتيمة في عوالم عطشى .
إن إحساس الفنانة جنان محمد بوجوب التحول نحو هيمنة عنصر البصري في منجزها التشكيلي بدأ يقودها على استحياء تجاه إعادة ترتيب حساباتها وتغير فهمها للرسم بكونه أولا بحثا في اللامرئي وثانيا بكونه قضية تقنية تنحصر في كيفية تعامل الرسام مع مادته أي قضية (ميتريالية) رغم كل ما قد يحاك حولها من حكايات و(أساطير).
وثالثا كون الرسامة تهيئ نفسها للدخول في المرحلة الأخيرة من أطوار استحالة الفنان وهو استلهام الفن السائد باعتباره النص الأول الذي تتفرع منه هوامش الفنانين التالية كذلك تدخل جنان محمد عالما لتجريد ولكن عبر عملية تسلل بطيئة من الباب الخلفي بخطوات وجلة وهي مثقلة بهمّ (تشخيصي) باتجاه (التجريدي) الذي هو ليس تجريدا تماما فهي تنتقي مفردات محددة من منجزها السابق وعلامات سبق إن وجدناها في المرحلتين السابقتين : شرفات وشبابيك وأبواب مغلقة، وعلامات من واجهات بيوت وأزقة رسمتها سابقا، ثم رصفتها هنا متقاربة في لوحاتها الأخيرة، دون اعتبارات لقوانين المكان وكأنها رقعة شطرنج  يحتوي كل مربع فيها على علامة محددة تحيل إلى جزء من الواقع .
إنها إذن علامات من الواقع بقيت راسخة منذ رسوم الطبيعة ومرورا بكل مراحل تطورها السابقة، حيث يتم تكريسها الآن باعتبارها مفردات للوحتها التجريدية التي تحاول جنان محمد تقديمها في الفترة القادمة.


عدنان عبد سلمان ... العماء اللوني


عدنان عبد سلمان واحد من الفنانين المتمكنين من الصنعة الأكاديمية والتي غالبا ما تضيع أصحابها حينما يكتفون بمهاراتهم تلك فيتخذون أشكال الواقع مرجعية شكلية لهم لا يحيدون عنها، وكنت خائفا على عدنان عبد سلمان من هذا المصير، إلا أنى فوجئت بمنجزه الأخير الذي اطلعت عليه، فهو ينم عن بحث حداثي يتجه فيه  الرسام عدنان إلى الطرف القصي من التجريد، حيث ما اسميه (العماء اللوني)، الذي  تظهر فيه المادة عارية من إمكانية تشكلها أو قبل تحقق إمكانية تشكلها، وحيث تبنى اللوحة من مسطحات لونية تمتلك هارمونية لونية و ملمسا لطيفا يعطيها طاقة لوني تعبيرية لذيذة، بينما كانت تجربته التي عرضها ضمن معرض مشترك عام 2008 تتأسس على استخدامه لونا أحاديا استطاع من خلاله، وهو الرسام المتمكن في التقنية اللونية، من تفجير قدرة ذلك اللون رغم قيود الأحادية.

من أعمال الفنان صلاح جياد المسعودي

صلاح جياد المسعودي.. الاكتظاظ بالعنف


ان إعمال الرسام صلاح جياد تتوفر على تمكن من التقنية اللوني الأكاديمية، والثراء اللوني، إضافة إلى موضوعاته التي تتوفر على درامية عالية، فأعماله المكتظة بأحوال العنف، كما يؤكد علي النجار " تبطن محاولة ما لخلخلة قساوة تضاريسها، فإنها أعمال تعمل على تفكيك او تفتيت الموروث الرومانسي الشرقي المتخيل (الوجداني والأيروسسي) فعلى الضد من رقة او زهو شخوص هذا الموروث او ملونته الفنتازية، فإنها تعمل على تفكيك او تفتيت الجسد او الطبيعة أحيانا، وليس بحدود صياغات اغترابية، بل بما يوازي تقطيع أوصالها من اجل إعادة بنائها بأثر على اثر ما تبقى من عنف هذه المحاولة. وان كان تفكيك الجسد لديه يتم عبر مدركات حسية، فهي حسية تناور خزين ذاكرة لا تبارح تواريخه المعاشة ولو لحيز ضيق اومهمل. ويتم استدراجه لبعض من مفردات التاريخ العراقي  الغابر (المزاحم لتواريخنا المدنية الحاضرة أصلا)، في حدود كونه شاهدا لعنف أزلي كان هو بعض من أثره...  وإذا كان التاريخ (اثر الجسد السومري) حاضرا في أعمال (صلاح) فان حضوره يتم من خلال استدعاءه او استدراجه كشاهد لعنف أزلي- العين بؤرة العالم والقسمات خارطة الأرض الأولى- وما تبقى من الجسد نثارا عصيا على الإدراك او الإحاطة العمومية".
لقد حافظ صلاح جياد على البنية الشكلية لموضوعه وتكويناته وما زالت أشكاله وكأنها تستمد نفسها من ذات النبع الشكلي والموضوعاتي منذ سبعينات القرن الماضي وحتى الآن".


من أعمال الفنان جعفر طاعون

الرسام جعفر طاعون.. إعادة النظر بكل شيء


عندما تعرفت على جعفر طاعون كان لم يزل طالبا يدرس فن الرسم، وكانت حرب السنوات الثمان مازالت مستعرة على حدود مدينتنا الساحلية، وفي حومة تلك الحرب كذلك هاجر جعفر طاعون عن بلدته البصرة، وبلده العراق، هاربا من ظروف العراق الدامية قبل عقدين مضيا، كان لم يزل شابا، غضا، وجلا، يستحيي من كل شيء، فكانت اللوحة بالنسبة إليه عالما مغلقا عصيا، إلا أن فعل تلك العقود الخوالي جعلت  جعفر طاعون ينتهي إلى شيء مناقض لما كان عليه قبل رحيله، فقد صار رساما دون حوامل ملفقة فلم يعد تؤطره أية ثوابت مقدسة للرسم بأطرها، فقد أعاد النظر، وأعاد تعريف كل شيء، فلم تعد لديه حدود لفن الرسم، ولا لـ(قواعد)ـه التي تلقفتها أجيال من الرسامين باعتبارها أنساقا، فغدت الفنون التشكيلية كلها عنده تخوما متداخلة، ومياها إقليمية لبعضها بعضا، والاهم في ذلك أن غدت المادة بالنسبة إليه هي الفعل الوحيد المهم في اللوحة، ونتيجتها النهائية؛ ولم تعد تمثيلا لأي شيء خارج واقعتها الشيئية، فلم يعد يشعر نفسه مدانا لأية اعتبارات ومسلمات خارجية تفرض سطوتها عليه، أو أية أشكال تنال، أو لا تنال القبول من الآخرين، فكانت تجربته تجربة (دينامية متواصلة) لا يقر لها قرار، ولم تعد اللوحة الملوّنة (بالزيت أو الاكريليك) محكومة بأية مسبّقات نظرية وبيانات تداري خيبة المنجز في أحيان كثيرة، فكان ذلك يعود، في جزء أساس منه إلى: أولا، فهمه لسطح اللوحة باعتبارها (ظاهرة بصرية) لا تحدّها مضامين، أو أشكال، أو موتيفات محلية تقوم مقام الشرائط التي لا تتحقق صفة الرسم إلا بها، وثانيا، انتهاجه نهجا هو ليس (الرسم بلا شكل) تماما، بل هو (رسم المادة) الذي هو رسم يغدو فيه الشكل (ناتجا عرضيا) - إن صحت التسمية- ناتجا من وضع اللون على سطح اللوحة، أو لملمس مواد الرسم أو ربما الأدق الوجود البصري، أو لحدوث (مستحثات) لا أدرية لذهن المتلقي ناشئة من تشكلات المساحات اللونية التي قد توحي "بطرائق أعمق تصطاد بوساطتها الحقائق المستحوذة علينا.. في أكثر نقاطها حيوية" كما يقول فرنسيس بيكون، لم يعد هنالك (الم) –وهو ما يحلو للبعض تسميته (دراما) الشكل- فالدراما تنبعث هنا، بفعل لا إرادي، ومن مصدر غامض في تركيبة ألوان اللوحة، تركيبة اشد قسوة وإقلاقا مما يحدث من الأشكال المشوهة التي يرسمها الآخرون، كانت تراكيب جعفر طاعون نمطا من الرسم، والأدق من المساحات اللونية الموالفة بشكل مغاير لا مرجعية له، فقد قطع الرسام صلاته المرجعية الشكلية التقليدية، وانغمس في لعبة الافتتان "بالمادة الحقيقية التي تصنع منها الصورة" من خلال مزاوجة حية وتلقائية بين التجريد (اللاشكلي) والطبقات الثرة للون الذي تم صنعه من (الطلاء الثقيل)، أشكال لون غامضة، ومهووسة، ومفتونة بأساليب (رسامي المادة)، حيث يكون السطح مستوى واحدا ذا عمق ضحل، أو ربما دون عمق، على عكس تجارب بعض الرسامين المهمين الذين يبنون لوحاتهم من مستويين متراكبين: مستوى لونيا غائرا، ومستوى خطيا آخر يطفو فوقه ومنهم مثلا: هاني مظهر وفاخر محمد في مراحل سابقة من تجربته، فعند جعفر طاعون، ينتفي الإحساس بالفضاء، فلا نرى سوى سلسلة من المساحات اللونية المسطحة التي تمتزج بالأرضية، التي توحي وكأنها جزء صغير من لوحة تم تكبيره مئات المرات، لتكون لوحته في النهاية رؤية مجهرية تم النظر إليها من خلال مجهر عملاق كبّرها بشكل مبالغ به واستثنائي.
لقد حدثت تحولات ضخمة في فهم جعفر طاعون لفن الرسم باعتباره (فنطزة لاواعية) لفعل اليد التي ترسم، وللعين التي تتلقى، دون تدخل عقلي مباشر في صياغة اللوحة، فشكّلت لوحته نسقا تعبيريا موغلا في التجريد اللاشكلي، فلم يعد التجريد، عنده، تنكرا للواقع والمحيط، بل رؤية تعبيرية لا شكلية تنقل أحساسات غامضة وسرّية، من خلال سطوح مفرطة في البساطة، يمكن تبيّن تواشجها التجريدي والتشبيهي معا، في فعل متوازن ورقيق كان نتيجة طبيعية لتلاعب (أشكال) المساحات اللونية مع بعضها باعتبارها هدفا ثابتا في تأسيس سطح اللوحة من حشود مساحات اللون التي تشكّل، من خلال تعبيريتها الأثيرة، وسطا ذهبيا بين التشخيص والتجريد، فتغدو تلك المساحات أشباحا لمشخصات دونما ملامح، وكأن جعفر طاعون يدين ببعض نزوعه هذا لتوجهاته الاعتباطية للتجريد، تلك التوجهات التي يخضعها لرؤية ليست شخوصية تماما بل ربما سحرية، حيث الأشباح اللونية التي تطل على المتلقي من وراء حجاب اللون الضبابي.
لقد ازددنا قناعة، في السنين الأخيرة، بان مقاربة جعفر طاعون لسطح اللوحة تتلخص في كون ذلك السطح حقلا تستخدم صبغة اللون عليه، وان هذه المقاربة قد أسست من خلال فهم ناتج هو الآخر عن تبنّي الرسام للتقنية الحديثة في التلطيخ اللوني أكثر من الرسم على القماشة، فقد كان اللون جزءا حيويا من المادة وهو يحيا في كل خلية من خلايا سطح اللوحة ونسيجها الثر الذي تشرّب باللون فغدا (كل) عناصر اللوحة معا. 


جاسم الفضل.. التعبيرية مرحلة انتقالية


يبدو جاسم الفضل، هذا الرسام الذي قضى ما فات من عمره الفني رساما أكاديميا، يحث الخطى لتقديم أولى بوادر تحوله عن الرسم الأكاديمي شيئا فشيئا ربما نحو التجريد، من خلال تحوله الخجول نحو التعبيرية، هذه المرحلة التي شهدها الرسم العراقي في ثمانينات القرن الماضي باعتبارها نسقا مهيمنا فيه، بفعل ربما عوامل اجتماعية أهمها برأينا: ثقل وجسامة الحرب العراقية الإيرانية على الوضع. الاجتماعي، وقد بشّر بعض النقاد في ذلك الوقت بهذا النمط من الفن؛ ووصفها بعضهم بقولهم ان "التعبيرية، خلال الثمانينات، كانت نزعة أسلوبية عامة" (مجلة الطليعة الأدبية، بغداد، العدد 3-4، 1990، ص 11)، حينما شكل الاتجاه التعبيري في ذلك الوقت، برأينا، ارتدادا على منجز الستينات الذي تجاوز الرسم التعبيري والوحشي لمرحلة الرواد، فكانت لوحات جاسم الفضل تذكرنا بتلك المرحلة التي كان فيها عاصم عبد الأمير، وهاشم حنون، وخالد رحيم وهل، وآخرون يرسمون بهذه الطريقة، فنا تعبيريا حاول جاسم الفضل أن يجعله في إعمال الان: قادرا على استيعاب الدفق العاطفي الذي يعتمل في داخله، ودافقا بالإحساس اللوني، وبالحركة، مع لمسات من التجريد، واسلبة الأشكال

من أعمال الفنان جبار عبد الرضا

جبار عبد الرضا ... هيمنة البياض


رسام متفوق من الناحية التقنية اللونية، و نشط و يتميز بشدة تحولاته بين الأساليب، بوعي مجرب، ينتمي لتيارات الحداثة بقوة، وتقترب أجواءه من فن البوب، كانت آخر توجهاته في رسم غرف الاستقبال، التي يؤثثها بعناية ويطعمها بمساحات فارغة، بينما اتجه مؤخرا في معرضه المزمع إقامته خلال بضعة أشهر نحو استخدام مواد بلاستيكية تعطي اللوحة بعدا ثالثا ناتئا تدعو المتلقي أن يتفاعل مع هذا البناء النصبي أكثر مما يعتبر لوحة مسطحة أو ببعد ثالث وهمي، وبذلك فهو يلغي المساحة الفاصلة بين الرسم والنحت. في المعرض المشترك الذي أقامته قاعة مينا للفنون كان جبار عبد الرضا، هذا الرسام الذي جرفته الحياة بانشغالاتها، كما جرفت قبله حامد مهدي، يحاول استثمار طاقته الضخمة على التلوين من خلال إعمال غنية باللون سواء تلك التي أنجزها بالزيت او بالاكريليك او بالأحبار الملونة والمواد المختلفة، فقد استمر يؤثث مكان لوحته بإكسسوارات المكان المعيش، كراس وأرائك، وستائر ملونة بثراء وتقنية عالية، فجبار عبد الرضا، لا يتمكن من كبح جماح رغبته بالتلوين مهما كانت المادة التي يستخدمها ليطوعها لمقتضيات قدرته التقنية.

من أعمال الفنان حامد مهدي

حامد مهدي ... عوالم الفنطازية


فنان متفوق من ناحية التقنية اللونية، ولكنه لم يتفرغ بما فيه الكفاية للرسم، لذا فقد خسره الفن، فقد كان مشروع فنان طموح، كان يبني عوالم فنطازية لا هيمنة فيها لقوانين زمكانية تقليدية ومنطقية، حيث تتناثر أشكاله طائرة في فضاء اللوحة، تماما كما كان شاغال ينثر أشكاله ببذخ على سطح اللوحة دونما اكتراث بقوانين الجاذبية.

من أعمال الفنان قاسم محسن

قاسم محسن.. أفاريز عصية على الاجناسية


يقسم قاسم محسن لوحته التي تقف موقفا فريدا من ناحية الاجناسية: بين الرسم والريليف النحتي، فهو يقسم اللوحة إلى أفاريز، كما كان العراقيون يقسمون جدارياتهم الناتئة، وكما قسم العراقيون إناء الوركاء ألنذري، يقسم قاسم محسن لوحته إلى إفريز علوي يضم كتابات من خط الثلث تعقبه أفاريز تضم مشاهد من النحت العراقي قديمه وحديثه، وزخارف، ورسوما طفولية من اسماك، وبقع ملونة، كل تلك العناصر تمت استعارتها من مصادر شتى لتشكل معا (لوحة) قاسم محسن الذي يبني لوحته من معمارين: أولهما غائر ناتئ ينتمي إلى النحت البارز (الريليف) وثانيهما طبقة خفيفة من اللون الذي يضعه فوقها دون أن تغير من وضوح أشكاله النحتية إلا قليلا؛ بينما كانت إعمال الرسام هاشم تايه تضع قدما في الحداثة من خلال اختلاط اجناسيتها وفق نماذجها الشائعة الآن في ما هو سائد من نتاجات فنية حداثية في الوقت الحاضر، فيتشكل عمله من مجسمات تنتمي إلى النحت، وتضم في ثناياها سطوحا ملونة تنتمي إلى فن الرسم.


فؤاد هويرف ... الشاخص الهلامي


تحتل كتلة الشاخص عند فؤاد هويرف مهيمنة بارزة ضرورية لبناء اللوحة، بموجب الاشتراطات التي يحاول ترسيخها باعتبارها إحدى أهم المرتكزات الشكلية في بناء اللوحة، مانحا شخوصه الهلامية ملمسا ناتئا، وهو ما بدأ يظهر في تجربته بعد أن أنجز مجموعة من كالمنحوتات الصغيرة التي صنعها من الطين المفخور الملون لرؤوس بشرية صغيرة مؤسلبة ومحززة ومشغولة بطريقة قاسية مؤثرة تعطي إحساسا بالقدم وبمؤثرات الزمن وبالألم . يحاول فؤاد هويرف الايحاء بصلابة (كتل) اللوحة اللونية وإمكانية التواصل معها بصفتها عملا ناتئا فوق سطح اللوحة، رغم انه لا يعمد إلى استخدام مواد نافرة بشدة على سطح اللوحة و لكنه يدفع المتلقي إلى الإحساس بوجودها، ويواصل كريم الوالي تلمّسه الوجود الإنساني من خلال (الأثر) على الجدران والسطوح في لوحات بأحجام كبيرة تسمح بحرية المحاولات التجريبية. ويعمد حيدر علي إلى تبسيط اكبر واختيار مساحات لونية كبيرة متجاورة مع اهتمام بتكنيك الاشتغال اللوني، ويعمد علي عبد الجليل إلى تنفيذ خشن، ولكن بإخراج، في غاية الأناقة.

من أعمال الفنان ياسين وامي

ياسين وامي والتجريد المفرط


يبدو ياسين وامي وقد تلمس، من خلال إيغاله في التجريد المفرط، أحد أهم المرتكزات التي أسس عليها الرسم الإسلامي، وهو التكرار، حيث المتواليات الزخرفية التي تلتهم الفراغ وتفتح احتمالات أعظم لفراغ آخر، فلوحته ليست سوى مربعات ليست هندسية مرصوفة بحذاء بعضها الى ما لا نهاية فتكون لوحاته، بدرجة ما، متماثلة بشكل مختلف، ومختلفة بشكل متماثل، فهي متشابهة كونها تشكل جزء مقتطعا من لوحة واحدة قد تمتد إلى ما لا نهاية، ومختلفة كون كل واحدة تمتلك سماتها المتفردة، وخاصة سماتها اللونية مما يجعلها تفترق عن الأخريات ولكن بشكل متشابه.

من أعمال الفنان سمير البدران

سمير البدران والمحنة الإنسانية


يتابع سمير البدران تجاربه على الإنسان في عزلته، ومأساته، ومحنته، حيث يصوره وهو يرزح تحت ظلم قد تختلف أشكاله ومصادره وأغطيته، ولكن لا تختلف آلياته ونتائجه النهائية، فينسج الرسام لوحاته المصغرة miniature من خلال رصف مئات الآلاف من النقاط متنوعة الألوان تنتهي في النهاية إلى أشكال آدمية مؤسلبة، تشي بآلام لا حدود لها، و لا قدرة للإنسان على تحملها.

من أعمال الفنان أزهر داخل

أزهر داخل... العيــــــن الموشــــــور


هل يمكن لعين بشرية ان تتخذ صفة الموشور بتحليلها المرئيات كما يحلل الموشور ألوان الطيف الشمسي إلى عناصره اللونية الأساسية؟ وهل يمكن لتلك لعين ان تنظر للواقع وأشكاله فتستخلص منه عناصره الشكلية (الأساسية) علامات تنبني منها اللوحة ولا تعاني من القطيعة مع المشخـّصات؟
لقد حدثت الثورات الفنية في الفن، وعلى مدى التاريخ، متساوقة في مجالين متوا شجين هما: الشكل واللون، إلا ان أولى الثورات التي حدثت في الفن الحديث كانت ثورة باللون ابتدأها الانطباعيون والمبشرون بهم الذين سبقوهم، إلا ان ثورتهم تلك لم تمسس أهم مقدسات الفن التي كانت سائدة فيما مضى وهي قداسة المشخّص، انتظارا للثورة المهمة التي حدثت في مجال الشكل والتي عصفت بآخر مرتكزات القدامة في فن الرسم حينما رسم بيكاسو لوحته (آنسات افنيون)، والتي فتحت الباب لرياح التغيير العاصفة التي لم تبق ولم تذر مقدسا بعدها، لقد حولت الانطباعية عيون الرسامين إلى موشور تحليل للضوء، بينما حولت التكعيبية عيون الرسامين، هذه المرة، إلى موشور لتحليل أشكال الواقع، وهو ما كان أزهر داخل، الرسام والأستاذ في أكاديمية الفنون الجميلة في البصرة قد وضعه باعتباره بوابته لرسم ينتمي إلى الحداثة، فهو رسام، ربما لموانع واعية او غير واعية في نفسه تجاه المشخّص، اتخذ موقفا وسطا، قد يكون بالنسبة إليه، وسطا (ذهبيا)، فهو لم يقاطع الواقع، ولم يقاطع مشخصات ذلك الواقع، كما قد يفعل البعض تحت ذرائع شتى، "فصليبا الدويهي يصر على رفض فكرة (التجسيد) التي يعتبرها (غربية) ويتشبث بنوع من (التسطيح) (aplatissement) الذي يصير عنده مساويا للذات الشرقية... بالنسبة إلى الفنان اللبناني حسين ماضي، فإن قضية الهوية تنطرح بصراحة وعمق وتصير جوهر العمل التشكيلي لتظهر "في منطق التأليف: أخذ الوحدة الشكلية وتبسيطها دون إضاعة هويتها، ثم أعتمادها كمفردة في تأليف صفحة ملونة بالاعتماد على التكرار في رسمها.." إلا انه، في الجانب الآخر، لم ينغمس بلعبة استنساخ ذلك الواقع ومشخصاته، ولكنه نأى بنفسه مسافة سمحت له بأن يحيل تلك العناصر التي تحدث عنها سيزان مرة حينما قال بإمكانية تحليل الأشكال المعقدة للواقع إلى عناصره الشكلية الأساسية البسيطة المستخلصة من أشكال ابسط الحجوم كالاسطوانة والمخروط وغيرهما، ليصير اكتشافه هذا منهجا للاتجاه الذي غيَّر ليس فقط وجه الرسم الحديث بل وغيَر فهمنا للرسم وللأشكال بطريقة حاسمة منذ لوحة بيكاسو (آنسات افنيون) وما أعقبها والتي دشنت مرحلة جديدة وحاسمة أفضت إلى الاتجاه التكعيبي الذي ابتدأ بسيطا ثم انتهى إلى تهشيم أشكال الواقع بطريقة قد لا تكون لها تلك الصلة البسيطة والواضحة، وربما الفجة مع مقولة سيزان.
ينحو أزهر داخل منحى آخر أكثر بساطة في تعامله مع أشكال الواقع، فهو رسام غالبا ما يبني لوحته على هندسة مسطـّحة تعتمد نظاما ببعدين، كما كان الرسم الإسلامي والفرعوني والشعبي، ولكن مع تجاوزات طفيفة، او زحزحات طفيفة عن ذلك النظام، هنا او هناك، لذا فان ابسط أشكال الوقع عنده تختزل شكليا إلى ابسط الأشكال الهندسية المسطـّحة كالمثلثات والدوائر، وحتى في حال تعقـّدها فهي لا تخرج عن ابسط خط كفافي خارجي يحقق كفاية البنية الطوبولوجية للمشخّص.
حشود من المشخـّصات المبسّطة المبثوثة بنظام يجترحه الرسام ذاته لينتج نظاما زخرفيا ذا سمة شخصية يشكّـل أرضية منسوجة من تلك العناصر بشكل يؤدي إلى ملء كامل المساحة بآلية زخرفية تحافظ على أهداف الآليات الزخرفية القائمة على التهام الفراغ، لا بهدف الغائه بل بهدف إضافة احتمالات فراغية اكبر، وبطريقة انفجارية تمتد الى ما لا نهاية، الى المطلق، المطلق ببعض سماته ذات الجذور الدينية، مطلق يتجاوز المرئي من المشخـّصات وينطلق نحو فضاء اللانهاية.  

من أعمال الفنان محمد مسير

الرسام محمد مسير... الموضوع... وشيئية اللوحة


رغم اللمسات التجريدية (= السحنة)، فأن الرسام محمد مسير يعدّ رساماً تعبيرياً على درجة عالية من الإحساس بالخامة بنمطيها اللذين يستخدمهما في الرسم: المادة واللون.
المادة، ونعني بها المستحثات التي يضعها قبل الشروع بوضع اللون، والمستحثات مواد صلبة، قاسية، ناتئة، لا يمكن للألوان ان تزيل أو تغير وجودها الفاعل في بناء اللوحة، وبذلك تكون هي الفاعل في بناء اللوحة، وبذلك تكون هي ما اسماه بيكاسو (علامة الواقع التي لا يمكن محوها)، وان نمطاً كهذا من الإشارات يضعها الرسام باعتبارها مرتكزات طوبولوجية، يبني عليها كلّ ما يعقبها من إشارات وتقنيات...
ان التعبيرية أسلوب يتناول الواقع بمتجه ينطلق من داخل الفنان باتجاه ذلك الواقع (= المشخّصات) وليس العكس، فتصطبغ تلك المشخّصات، واللوحة كلها، بروح الرسام، التي قد نجد أنفسنا نرتكب، بفعل هيمنة تلك الروح، ما لم نرتكبه من قبل، وذلك حينما نوافق، دونما حدود، على ان نأخذ نيّات المبدع (= خطابه النثري) بوصفه جزءاً جوهرياً من خطابه التشكيلي، أو موجّهاً قرائيّاً لتلقّيه، فإن هيمنة الموضوع (= نيّات المبدع) في معرض الرسام محمد مسير (ما بين التراب) وضعتنا في طريق مسدود وهو ما يسميه محترفو لعبة الشطرنج zug zwang.
يظل الموضوع، وغالباً ما يكون العنوان بوابته الرئيسة والأهم، (يظل بمثابة (النظام التكويني) المسبق في ذهن الفنان، قبل ان يستحيل إلى (بناء)...) كما يقرر شاكر حسن آل سعيد، أي إلى خامة على السطح، وبذلك يكون الموضوع هيكلاً بنائياً للعمل الفني الذي يرتبط وجوده ارتباطاً، لا مناص منه بالتجسّد اللاحق عبر شيئية اللوحة، وعبر الخامة تحديداً، باعتبار اللوحة ليست سوى ذلك السطح الذي تكسوه الخامة. إن لهذا التوجّه مخاطره الجمة كونه يحدّد لدى المتلقي سلفاً، أي قبل معاينة اللوحة، منطلق عملية التلقّي، وبذلك يكون الموضوع ـ وهو خطاب درجنا على تسميته (خارج جماليّ) ـ مدخلنا الذي (وضعه) لنا الرسام سلفاً، وقبلنا مقترحاته (عناوينه) لدراسة البنية والشكل، وهي توصي بتفاصيل عن الموضوع قبل رؤيته، فتكون للوحة مرجعية تاريخية سابقة هي العنوان، والموضوع، اللذان سيهيمنان على تصّورنا، بطريقة قسريّة مسبقة، باعتباره (النظام التكويني) للتجربة، أو نظامها اللغويّ، كما يسميه آل سعيد أحياناً.
ان كل تلك المهيمنات لا تمس جوهر العرض الذي يقدمه محمد مسير باعتبار تلك الموضوعات ليست سوى مناسبات لاختبار قدرته التقنية على التعامل مع الخامة التي تواجهنا عارية بصرف النظر عن الموضوع الذي تحمله أو التي يريد الرسام منها ان تحمله، وبذلك فهو يتخذ مكانة مع رسّامي المادة، سواء كانوا رسامي موضوعات وأهمهم في الفن العراقي الحديث فائق حسن، أم رسامي (لا موضوعات).. ان صحّت التسمية ـ وأهمهم محمد مهر الدين، وبذلك يكون محمد مسير رساماً حاول استعارة موضوع ذي طابع (مواصلاتي) ليقدم لنا نفسه رساماً متمكناً من استخدام الخامة.
يشهد أسلوب محمد مسير تحولات جذرية في فهم دور الرسم ودور الخامة والسطح، إنها تحولات ستظهر منه رساما آخر يفهم كل تفاصيل عملية الرسم بطريقة مختلفة، رغم ان هذه التحولات مازالت في طور التشكل.

من أعمال الفنان كفاح محمود

كفاح محمود .. حروفيات في فضاءات لونية


حين اقام الكاريكاتير العراقي كفاح محمود معرضه الفني الثالث على قاعة مكتبة (نيوندام) في منطقة شمال أمستردام، كانت الاعمال، حسب ما جاء في احد المواقع الالكترونية، قد "تراوحت بين التجريد وهي السمة الغالبة للأعمال وبعض الحروفيات في فضاءات لونية وجمالية مختلفة وأخرى غلب عليها الطابع التشخيصي المبسط .أعتمد الفنان على بعض أعمال الموروث التي اتصفت بالطابع التجريدي كأعمال البسط والزخارف الجدارية التي زينت بها واجهات المساجد والقصور العربية. قصص الطفولة وأجوائها الحالمة جسدت من خلال الخلفيات التي غلب عليها روح الخيال والرومانسية المفقودة في عالمنا المرعب الملىُ بالخوف والموت والحروب المدمرة . أما الطائر فقد تكرر بأكثر من عمل فني فهو تارة يحوم حول جسد مسجى على الأرض وأخرى داخل مربع وثالثة امتزج مع تكوين الشجرة ورابعة هرب من إطار اللوحة بالكامل إلى مكان مجهول لا يعلمه حتى الفنان نفسه .
نقوش كثيرة على جدران وهمية وأخرى مبعثرة في سماء اللوحة و فضاءات حالمة بغدِ أجمل، وليل جميل وساحر لربما هي إسقاطات من الماضي المفقود في ليالي مدينة البصرة الرائعة عندما كنا ننام ليلا على سطوح المنازل ووجوهنا تعانق السماء ونشعر بأن الله ينظر إلينا بحب من خلال الملايين من النجوم والكواكب التي لا نعرف أسمائها ولا نريد أن نتعرف عليها لأننا نريد أن نسميها نحن وبأسمائنا التي سنختارها أو التي ستختارها لنا الجدة عندما تحكي لنا قصص المساء وأسطورة السعلاة التي تأكل الأطفال المزعجين الذين لا ينامون إلا ضربا بالنعال، أما نحن الأطفال الحلوين فلا خوفٌ علينا لآن الجدة على علاقة جيدة بهذه السعلاة وستوصيها بنا خيرا إن أحسنا التصرف . في البصرة لا يمكن أن تلحد لأنك ترى الله في كل مساء من على سطوح منازلنا الطينية البسيطة فلا عمارات ولا بنايات عالية تسد الفضاء أو تغطي وجه السماء".

من أعمال الفنان خالد خضير

خالد خضير.. عبادة الخط


أضع نفسي آخر الرسامين وأنيب القاص محمد خضير في الحديث عني، فقد كتب في مقال  نشر في مجلة الأقلام ثم في مجلة ألواح الصادرة في اسبانيا العدد 17، تحت عنوان (عبادة الخط):
 "وجد خالد خضير في فن الرسم ضالة يسكن بها نزعة من نوازع موهبته المتعددة الجوانب .. فهو لاعب شطرنج وشاعر وناقد .حين امسك برأس الخط، انجذب إلى النقطة الشابحة على رقعة رؤيته شخص وحيد، قدم من الضفة البعيدة لبحيرة الحبر، وحينما تكرر حضوره، تشبع الفنان بحبرية هذا الشخص، فلم يكن هذا الشخص سوى روح دمية مجنحة، تبحث عن جسد واسم الأسرة . سلم خالد شخصه للطباعة فاحتل حيزا ضيقا إلى جوار النصوص الأدبية. واكتفى الشخص بهذا الحضور، كما قنع الفنان بالتخطيط وسيلة وحيدة لاستحضار أشباح حبرية لفراغه التصويري. إذ ما يمتاز به التخطيط على اللون والظلال، اتساع مساحة رقعة البصر، وتقلص حجم الشكل إلى نقطة ضائعة في فراغ الرقعة الواسع. هذه مزية تناسب لاعب أدوار دهرية.
كنت وما أزال اعتقد أن فن التخطيط ممارسة خاصة جدا، شأنها شأن الكتابة المنسوخة، مادتها الورق و الحبر، حتى لو استعان رسام التخطيط أحيانا بقلم الرصاص والفحم أو لجأ إلى التلوين أو التظليل . وان اعتكاف الرسام على خطوطه شبيه بتمركز النساخة في مخطوطه، وكلا العملين نوع من أنواع عبادة الخط، تلخصها عبارة أسامة بن منقذ (سعادة الوراق جلود وأوراق وحبر براق وقلم مشاق) . وحين يجتمع التخطيط والكتابة في تزويق مخطوطه، تكتمل العبادة بزواج الصناعتين، ويتحقق فيها قول شاكر حسن آل سعيد (عودة الشكل إلى أزله الخطي، والحجم إلى أزله الشكلي)، ومثل أية عبادة تتعرض للانتهاك، هتكت طباعة المحفورات (الكرافيك) الرباط المقدس بين الخط والكلمة، وقضت احترافية الرسم على براءة التخطيط، وغلبت تقنية الاختراع عفوية الأسلوب، واختلط ظل الفنان المتبتل في محترفه بظلال النقاشين والطباعين والتجار وهواة جمع اللوحات المطبوعة. ولم ينجح رسام من حمى الحفر، ولم يفلت مطبوع من امتصاص فائض التعبير الأدبي لروح الخطوط الحرة . ولم يعد التخطيط إلى صراط عبادته الأصلية إلا باختراع الطباعة السطحية (الأوفست) التي أباحت الاطلاع على كراسات محترفي التخطيط الأصلية، فأحسسنا بطراوة الانطباع الأول، وحرارة الفكرة، وتنوع الإيقاع الخطي في دراسات مايكل أنجلو ودافنشي ورافائيل التشريحية، وبورتريهات ماتيس، ومجموعة تخطيطات بيكاسو، وبغداديات جواد سليم، ومعراجات شاكر حسن آل سعيد، وتراثيات ضياء العزاوي، وتخطيطات علاء بشير وإبراهيم رشيد وعلي طالب. كانت تلك الكراسات ترجمة أمينة لميول الفنانين الذاتية وقدراتهم الفنية، احتفظت بإيقاع الزمن، ومدت جسورا إلى تخطيطات أدباء وجدوا في البعد الحسي للتخطيط إسنادا قويا للأبعاد التصورية الرمزية في رؤاهم الأدبية . (تخطيطات وليم بليك وجبران ولوركا وميشو وغونتر غراس)...
وما دام التخطيط حرا، وانفراديا، في محترفه الأصلي وفي محترف الطباعة الحديثة، فلننظر إلى تخطيطات خالد خضير في حيزها المستقل عن الرموز الكتابية . إنها ما تزال عند نقطة الابتداء، بانتظار الهاتف القادم من النقطة البعيدة المتلاشية في بقعة الحبر، مصورا في شخص وحيد، لا تتغير ملامحه . انه نفسه في كل تخطيط، رأس كبير، جثة ثقيلة (ثقل قطرة الحبر)، عين واسعة، وأنف كبير . وليست للخط إلا وظيفة واحدة، هي إيقاظ الشخص في الطرق البعيدة وإحضاره . ومهما اتخذ الخط من اتجاه، أو تعددت نقاط انحنائه، وكيفما استدار في محيطه، فالشخص غالبا هو نفسه، جانبي الوجه (يتجه إلى الجهة اليسرى) دافعا معه رموزه (لا تخلو زمرة من شكل طائر يتجه باتجاه الوجه) إذ ليست للخط إلا هذه المهمة، توكيد الشخص في كل مرة يسمع الرسام هاتفا يتناهى إليه من عالم الأشباح، يقود الخط الشخص كما يقود أعمى، كان نائما في عالم المسرنمين، بلا اسم ولا عمر ولا ذاكرة، إلا ذاكرة الخط الرهيفة التي ترسمه ثم تدعه ينحل بسلام عند نقطة الالتقاء بعالم الحضور .هكذا يبدو خط خالد (خط شبحه) دائبا في المسير، ولنا أن نتوهم أن وراء الشخص الوحيد أشباحا ساعية في ظلام الحبر، لكنها لا تصل أبدا . كما لنا أن نتصور خلف رأس الشخص الضخم الملامح مخلوقا لا جنسيا ينتمي إلى عالم الرغبات المكبوتة، وان خلف المساحة المحدودة أصقاعا مجهولة، وخلف الخط الدقيق إيقاعا بدائيا عنيفا، وان خلف التخطيط بحرا من الرسوم . إنها البداية فقط، والخطوة القادمة أغنى في التنوع والإيقاع والتشكيل . أما الآن فلا يقدم التخطيط غير هذه الهواتف المترددة من الطرف الآخر، والزيارات القصيرة الحميمة الثابتة الاتجاه، والارتسامات المتماثلة . إن أشخاص خالد خضير أشكال أرواح، كما وصفها هو، أو دمى أرواح . وربما أثبتت تخطيطاته أن للأرواح وجوها متشابهة . وان فراغ السطح التصويري يلتقي بحافة فراغ كوني اكبر . وان الخط مهما نحف أو قصر، هو الحقيقة الوحيدة التي تشير إلى أولية الفراغ على الامتلاء . إن التخطيط هو الممارسة التصويرية الوحيدة التي تكتفي بنقطة وحيدة . وحين يتحرك الخط منها فانه يتحرك لينتهي بها . وأي شكل سيحدده الاتجاه سيكون شكلا غزير الدلالة، لأنه الشكل الوحيد الذي ابتدأ من نقطة صغرى نظيرة لنقطة الفراغ الأكبر
بهذه التعليلات تسيل قطرة الحبر على فراغ السطح الأبيض فتملأ ثقوب الفكرة بأشكال الأزل، مهما تصاغرت أو تكررت أو جمدت . وليس كالتخطيط احتراف تطور عن عبادة".


المصور الفوتوغرافي معين المظفر .. الإنصات للغة الطبيعة


قضى المصور الفوتوغرافي معين المظفر جزءا كبيرا من حياته وهو عاكف عكوف النساخ على تجويد مخطوطاتهم في الأستوديو الصغير الذي كان يعمل فيه في محلة البجاري، إحدى أقدم محلات ساحة أم البروم وأهمها، معتكفا لا يزوره إلا نفر من أصدقاء المصور أو ممن كان من الناس بحاجة إلى صورة ولا يرغب في تصويرها لدى أولئك المصورين الفوتوغرافيين الشمسيين الذين يفترشون الشوارع بمعداتهم، فكان أن تكون للمصور معين المظفر متابعون لنتاجه الذي كان في جله صورا (يوثق) بها معالم مدينته البصرة: ساعة سورين، وجسر المقام، وساحة أم البروم، ولم يعرف، أو ينتبه احد من هؤلاء ٍالمتابعين لنتاجه أو كانوا يغفلون نمطا من التصوير،هو ما أسميته (الواقعية المجهرية) .. حيث يبحث فيها معين المظفر عن (شيئية أللقطة الفوتوغرافية) التي تختلف عن شيئية اللوحة التشكيلية في كونها لا تنطلق من هيمنة عناصر المادة المستخدمة على سطح الصورة، بل من هيمنة (مادة) الواقع التي هيمنت على الصورة، وعلى شيئيتها، فكانت قوى للطبيعة المؤثرة في الإنسان وللوجود الخليقي بأسره، فلم تعد الصورة سوى اثر، ربما براعم خبيئة في طيات شجرة، أو غصن اقتلع من شجرة منذ زمن فتآكل بفعل قوى الطبيعة، أو ربما فسحة بين صخرتين أو جذعين من جذوع الأشجار المتهرئة بفعل الزمن؛ فامتلأت بعلاماته، أو ربما ببقايا كتابة عاشق خطها بسكين في لحاء شجرة ومضى، وبذلك لا يهتم معين المظفر بذلك الأثر بل بفعل الزمن فيه، أي بذاكرة الزمن ومدوّناته على (صفحات) الطبيعة البكر.

من اعمال الفوتوغرافي حيدر الناصر

المصور الفوتوغرافي حيدر الناصر .. تشكلات ... الذاكرة الجمعيــّـــــــة


انخرطت الصورة عند حيدر الناصر، في لعبة تاريخية، لتضع نفسها جزءًا من سجل تاريخي للواقعة، ويخضع لذات الآليات الهرمنيوتيكية (التأويلية) التي قد تبتعد عن ما يفترض البعض وجوده كمعنى (أصلي) قار، و تتقمص الصورة طابع الأثر في طيات الواقعة، وبعد ان تقدمت الواقعة ألان خطوة في التاريخ، خطوة لا يمكن التنبؤ بها من خلال الصورة التي تسبق زمن (الواقعة الآن) حتما وبالتالي شكل الواقعة الآن.. فقد كان المصور الفوتوغرافي حيدر الناصر، طوال منجزه السابق يحاول تصوير(= تسجيل؟) وقائع مدينته، تماما كما كان سلفه معين مظفر ومعظم مصوري البصرة الفوتوغرافيين الذين افتتنوا بالوقائع المكانية لمدينة البصرة وزواياها، ربما حتى الزوايا المهملة منها: المقاهي المنزوية في العشار، والبصرة القديمة والزبير، والشوارع الضيقة وهي تخترق بيوت الشناشيل، وشبكة الأنهار التي تخترق البصرة: الخورة، ونهر العشار والرباط وشط الترك، فلم يجعل اهتمامه منصبا على رؤى ما بعد حداثوية افترضها بعض المصورين الفوتوغرافيين كنمط كرسته ثقافة الصورة الرقمية وبرامج (الفوتوشوب)، لينتهي الآن إلى تكريس انتباهه لخفقات الطبيعة السّريّـة تلك والتي يعتقد أنها ستكون أكثر سحرا من الواقع ذاته من تسجيل وقائع سحر الطبيعة في الاهوار بحياة ساكنيها وفعالياتهم الاجتماعية ومفردات بيئتهم الغارقة في الحياة منذ آلاف السنوات.


النحات نوري ناصر طاهر.. واستنهاض روح الشجرة


حينما كان النحات هنري مور يجوب الشطآن بحثا عن قطع الحصى والصخور التي تتوفر على اكبر قدر من التشاكل الصوري مع الشكل الإنسانيّ كان يقول : "أضع كل شيء كنت قد جمعته: بعض الحصى، وبعض العظام، أشياء جاهزة، وغير ذلك، كل ما يساعد على توفير جوّ لبدء العمل..." فإنما كان يفعل ذلك وكذلك ايف تانكي ليوف محفزا بصريا لإثارة وتحقيق تشاكل صوري بي شكل الإنسان وأشكال مشخصات الطبيعة، وهو الأمر ذاته الذي كان يحاول النحات نوري ناصر طاهر فعله حينما كان يستقرئ آثار الشجرة، وآثار الطبيعة في لحاء الشجرة، بما يحقق (التشاكل البصري) مع الجسد الإنساني لإنتاج أشباح (أشجار بشرية) لا تستعير من الشجرة مادتها فقط بل روحها، وتستعير من الجسد الإنساني أهم تحققاته البصرية، وحالاته الروحية، فكان ان امتلأت قاعة البيت الثقافي في البصرة، بتلك الأشباح المتطاولة التي اختارها النحات بعناية من أجزاء في الشجرة يتحقق فيها اكبر اقتراب صوريّ من الشكل الإنساني، لينتج جحافل من البشر المؤسلبين الذين يعانون من قسوة العيش، ومن الكآبة!، فتركت الشجرة علامتها (علتها الأولى) التي ظلت عالقة في الشكل البشري حتى آخر لحظة، ليس فقط بمادتها، بل وبخشونتها التي قرنها الرسام جاسم الفضل بخشونة منجز النحات الراحل صالح القرة غولي الذي كان يستخدم مواد شديدة الخشونة والاستثنائية كالأسلاك وخيوط الصوف والقير، وهو ما فعله النحات نوري ناصر حينما ترك منحوتاته خشنة ولم يعمد إلى تغيير وضعها، ربما في محاولة منه للاحتفاظ (بروح شكل الشجرة) وروح الخشب الخام الخشنة.
كلمة أخيرة نود تسجيلها هنا، وهي ان هناك فنانون آخرون يستحقون الكتابة عنهم وقد كتبت عن العديد منهم إلا ان زحمة الحياة جعلتني افقد ما كتبته عنهم، ولكنهم مازالوا مشروعا للكتابة، وان هذه الانطولوجيا مازالت قيد الكتابة والتشكّـل، ومن هؤلاء مثلا لا حصرا: مهدي الحلفي، وعلي عاشور، وطاهر حبيب داود، وكامل حسين، وصالح مهدي الجادري، وصالح كريم، وكريم حميدي، وصدام الجميلي، وحسين البدري.