نخيل البصرة من 13 مليوناً عام 1977 إلى أقل من مليونين
الصور بعدسة المصور حيدر الناصر
أكثر من 60 سنة مرت على مطالبة أحد موظفي دائرةالزراعة في البصرة الحكومة الملكية آنذاك بتقليل عدد أشجار النخيل من اجل زراعةالأرض بأشجار أخرى بعد أن ضاقت المساحات بـالـ13 مليون نخلة المثمرة،
وهو مجموع أشجار النخيل في المدينة الجنوبية، والتي كانت توصفحقاً بأنها «غابة لا تحد وأنهار لا تعد».وحتى منتصف الستينات من القرن الماضيكان عدد أشجار النخيل في البصرة أكثر من 13 مليون نخلــــة من مجموع نخيل العراقالبالـــغ 30 مليوناً، ويؤكد الباحثون أن تسميــــة العراق بأرض السواد جاءت منمشاهد غابات النخيل في البصرة حين كان العراق يعني البصرة فقط، ومعروف لدى الجميعأن لفظة العراقين تعني البصرة والكوفة. ويقول الشيخ عبدالقادر باش أعيان فيكتابه «النخلة»: «تكاد البصرة تنفرد عن بقية مدن الأرض بالنسبة الى تأثير الفيضانفيها، فهي لا تتأثر به بل العكس تماماً، فهو يغسل أراضيها من كميات الملوحة التييسببها قربها من البحر، وكانت المواسم التي تعقب الفيضان من أفضل المواسم الزراعيةفيها، إذ تصبح أراضيها خصبة خالية من الأملاح، ومعدّة لزراعة مختلف أنواعالمزروعات، وبخاصة النخيل».وتنفرد البصرة بوجود اكثر من 350 نوعاً من التمر بينالتجاري الذي يصدر، كالحلاوي والساير والزهدي والخضراوي... وبين الخاص الذي يستخدمللاستهلاك المحلي، كرطب البرحي والبريم والقنطار. وكانت أول باخرة محملة بالبلحتغادر ميناء المعقل في مطلع الشهر العاشر من كل سنة متوجهة إلى أميركا، ثم تتوالىالسفن الكبيرة منها والصغيرة تجوب بحار العالم شرقاً وغرباً حاملة تمر البصرة إلىالعالم.
سنوات وصفت بالذهبيةكانت الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي سنواتذهبية بالنسبة الى إنتاج التمور في البصرة من ناحية الكمية والجودة، ولعل جملةأسباب تقف وراء ذلك، فلم يكن النفط عرف بعد ليصبح مصدراً رئيساً للاقتصاد، بل لميكن الفلاحون أنفسهم سمعوا بعد بمقدار كمية النفط في العراق ومخزونه منه، وإنماكانوا يعتقدون بأن التمر والتمر وحده هو المصدر الحقيقي للحياة ومن دونه لا معنىللعيش .ويعتقد التجار وكبار ملاكي البساتين بأن النظام الضريبي المعمول بهآنذاك كان شجع على استثمار أموالهم في زراعة النخيل وتجارة التمور، حتى صار يعرفالملاك الحقيقي بمقدار ما يمتلك من أشجار النخيل، والنخل هو المعنى الأول للثراء فيالبصرة.
صناعة التمور في البصرةكان أهل البصرة أشهر الناس في تصنيع التمور،وتفننوا في صناعاتها، وتطورت هذه الصناعة في شكل كبير منتصف القرن الماضي، عندماكان يصدر بالخصاصيف والأقفاص المصنوعة من السعف والجريد قبل دخول الصندوق الخشب،وصار التمر يعلب بعلب خشبية وبمختلف الأحجام، فانتشرت المكابس الكبيرة على ضفتي شطالعرب بفضل التجار الكبار الذين فتحوا لهم فروعاً في لندن ونيويورك وبيروت وغيرها .ولعل التاجر البريطاني المشهور أندرو ويت الذي دخل العراق مع بداية الحرب، منأول التجار الذين عرفوا أهمية تمر البصرة، فأنشأ شركة لصناعة التمر صارت في ما بعدأكبر مستودع للتمور في العالم وهي المنطقة المسماة اليوم بنهير الليل عند مدخل نهرالخندق من جهة شط العرب، ثم توالت المكابس يقيمها تجار البصرة وصار اسم «بيت حناالشيخ» و «بيت جوك» و «بيت اصفر» و «مارين» و «الداوود» وغيرها «ماركات» مشهورة فيعالم «الصناعة التمرية».ويقول المعنيون إن العد العكسي لصادرات البصرة منالتمور بدأ بانهيار الحكم الملكي، ومجيء الجمهوريات التي اتجهت إلى النفط بكلطاقاتها، وفتحت الشركات وصار الفلاح يترك حقله ليعمل بأجر يومي هو في الحقيقة أضعافما كان يحصل عليه، ثم ان النظام السياسي صار يضايق الملاكين فهربت غالبيتهم إلى دولالخليج والدول الأوربية للبحث عن فسحة الأمان المفقودة في البصرة، وللحفاظ على رؤوسالأموال التي باتت مهددة من جانب النظام .ويقول الحاج عبد الرزاق العلي أحدالمكبسين المعروفين في البصرة «إن المتاجرة بتمر البصرة اليوم لا تؤمّن للتاجرحاجته، وإذا لم يستورد من الناصرية والحلة وغيرهما، فإنه لا يستطيع سد حاجة السوق،لأن مساحات شاسعة من البساتين خرجت تماماً من كونها مصدرة للتمر، فـ «الفاو» هذهالمدينة التي كانت تشكل المصدر الرئيس للإنتاج لم تعد كذلك، وهي اليوم عبارة عنصحراء بطول 100 كلم خالية من النخل إلا من نخلة أو نخلتين بعد أن جرفت الحربالعراقية - الايرانية ما كان على أرضها».
تهريب الفسائل الى إيرانيقول حميد صالح حمود، رئيس المجلس البلديلناحية البحار التابعة لقضاء الفاو إن على رغم عودة بعض الفلاحين إلى المنطقة، إلاأن ما يزرع اليوم لا يتناسب مع المساحة الكبيرة الخالية، والمشكلة الأكبر، من وجهةنظره، هي أن المنطقة ما زالت تعاني وجود مئات الآلاف من الألغام التي لم تُنزعوالتي تتسبب بإعاقات للناس فضلاً عن تحولها إلى صحراء بعد أن كانت واحة من نخلوفاكهة.وهناك مشكلة أخرى تقف وراء انخفاض عدد أشجار النخيل في البصرة وهي تهريبالفسائل من النوع الجيد المسمى محلياً بالبرحي إلى إيران ودول أخرى عبر شط العرب،على رغم ندرة هذا النوع، فضلاً عن ارتفاع نسبة الملوحة في الأراضي بسبب شح المياهوعدم قيام الدولة بكري الأنهار الكبيرة، ما أدى إلى انخفاض مستوى المد والجزر وذلكبسبب الطمي والغوارق الكثيرة التي سدت مجرى الشط الكبير .ويقول جمعة خضير عيسى،معاون مدير زراعة البصرة، إن دائرته استحدثت آلية جديدة لإكثار عدد الفسائل وذلكبإقامة 4 محطات لأمهات النخيل في مناطق من البصرة، هي: القرنة، والبرجسية، والفاووالهارثة، وهي مشاريع حديثة تعتمد على زراعة الفسائل والعناية بها بمساعدة كليةالزراعة والجمعيات الفلاحية من أجل تزويد المزارعين بالفسائل وبعد أربع سنوات تؤخذالفسائل الناشئة منها على أن تهدى الأم إلى المزارعين.ويحدد مدير زراعة أبيالخصيب، احمد شهاب، عدد نخيل البصرة بعد عام من توقف الحرب العراقية - الإيرانية،وفي ضوء إحصائية عام 1989 بمليون وتسعمئة ألف نخلة بعد أن كانت تقدر عام 1977 قبلاندلاع الحرب مع إيران بـ3 سنوات بأكثر من 13 مليون نخلة.ويتحـــدث شهاب عنعوائلالنخيل إذ كانـت الفسائل تزرع بوجود النخلة الأم والنخلة الجدة وكلها مثمرة،لكن طريق التعاون الذي فتحه الجيش العراقي من «منطقة الخورة» حتى آخر نقطة في «رأسالبيشة» في الفاو تسبب في جرف آلاف الهكتارات من الأرض الزراعية وتحويلها إلى مراصدوسواتر حربية جعلت من المنطقة هذه والبالغ طولها أكثر من 120 كلم أرضاً بوراً، ماأخرجها من كونها أراضي زراعية، كما إن غلق مئات الأنهار وتحويل مجاريها تسببا فيرفع نسبة الملوحة في التربة بحيث لم تعد الزراعة ممكنة فيها.ويؤكد رئيسالجمعيات الفلاحية أن البصرة لا تنتج اليوم أكثر من 1-10 مما كانت تنتجه في السابق،فقد توالت التراجعات سنة بعد أخرى حتى أجهز عليها بالكامل النظام السابق أثناء حربهمع إيران، بعد هجرة الفلاحين وتجريف الغابات الكثيفة من النخيل والبساتين على ضفتيشط العرب.وبذلك خرجت تمور البصرة منذ ثمانينات القرن الماضي من السوق العالمية،فأغلقت مكاتب التجار في لندن وفرنسا وأميركا والهند وجنوب شرقي آسيا وبلدان الخليج،حتى نسيت الأسواق العالمية المدينة بصفتها منتجاً لأقدم أنواع التمور وأجودها بعدأن كان إنتاجها منها تجاوز الـ130 ألف طن سنوياً.البصرة تستورد تمورها من المحافظات المجاورة
والمتبضع من أسواق البصرةاليوم يأخذه العجب، فقد اختفت أنواع كثيرة من تمورها، وما هو معروض في السوق منهالا يدل على سابق عهدها به كأشهر مدينة للتمر في العالم، بل إن من يبحث عن الأنواعالممتازة من التمور لا يجدها في تمر البصرة، بل في تلك التمور التي تصلها منمحافظات كربلاء وديالى وبغداد وغيرها من مدن النخيل الأخرى، فتمر البصرة صار أصغرحجماً وأقل جودة بفعل العوامل التي ذكرناها.الجدير ذكره أن الحرب الأخيرة (2003) تسببت هي الأخرى بإلحاق أضرار كبيرة بالمناطق الزراعية في مناطق الفاو وأبيالخصيب وقضاء شط العرب جراء نزوح المئات من عوائل العرب المعدان الذين استوطنوا فيبساتين الملاكين الخليجيين خصوصاً الذين لم يتمكنوا من العناية بها بسبب الوضعالأمني الحالي وضعف الدولة وعدم قدرتها على حماية الأراضي التي تقع تحت سيطرتهابموجب القوانين العراقية حيث تسيطر دائرتا عقارات الدولة وأموال القاصرين علىالكثير من هذه الأراضي والتي تعرضت مستنداتها الرسمية إلى التزوير والاستملاك منجانب لصوصالعقارات.
زينب بابان